خطاب الهوية في انتخابات لبنان: نجاح أميركي أم فشل فرنسي؟

رائد أبو حمدان

 شكل صعود سياسات الهوية في العالم موجة مستجدة في تاريخ الغرب السياسي المعاصر بعد أفول أفكار الفاشية والنازية عند نهاية الحرب العالمية الثانية. فمنذ ذلك التاريخ سادت أميركا وأوروبا سياسات التنمية، حيث تصارعت الأحزاب والأفكار بين يسار ويمين أو محافظ وليبرالي، واعتاد المواطنون على انتخابات وتنافس سياسي مبني على برامج تنموية تحاكي همومهم الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.


في الولايات المتحدة، تبلورت سياسات الهوية وبلغت ذروتها مع حملة دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية الأخيرة، ودخلت كناخب رئيسي لتحل محل سياسات التنمية التي رسمت معالم كل ما سبق من انتخابات، فظهر خطاب «الخوف من الآخر» بدلاً من «خلق فرص العمل»، وأفكار «الحائط مع المكسيك» بدلاً من «التغطية الصحية الشاملة»، و «الخطر على الجماعة» بدلاً من «معدلات الضريبة»...

وانتهت الانتخابات بفوز غير متوقع لسياسات الهوية على سياسات التنمية لتبدأ مع ترامب مرحلة جديدة من الاستقطاب السياسي على أسس فئوية.



وفي فرنسا، شهدت الانتخابات الرئاسية جولة من صراع سياسي بين الهوية والتنمية، حيث حشدت مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن المناصرين على قاعدة الشعارات مرتبطة بالهوية والوجود وخطر الغريب الإسلامي، في وجه سياسات التنمية التي اعتادت على طرحها أحزاب اليمين واليسار والوسط الفرنسية على قاعدة النقاش حول التقديمات الاجتماعية والخيارات الاقتصادية... لكن الفرنسيين بإرثهم السياسي العلماني، وربما بسبب معاينتهم أضرار كارثة ترامب قبل أشهر، رفضوا الاختيار على قاعدة الهوية.

على رغم ذلك الصعود الفكري الخطير، ففوز ترامب أو خسارة لوبن لم يغيِّبا الطروحات التنموية في شكل كامل ولم يخسر الأميركيون والفرنسيون مكتسباتهم كمواطنين بحجة الهوية.

لكن المفارقة أنه في لبنان فقط ومنذ ١٨٦٠، استعملت الزعامات والعائلات الطائفية والإقطاعية «سياسات الهوية» على مدة قرن ونصف من الزمن لتثبت سطوتها على الحكم، وكانت قد طورت أساليب عملها الأحزاب التقليدية والقوى السياسية الطائفية حتى يومنا هذا. فكانت ولا تزال «الهوية» أولوية الأولويات عند الناس (بوتيرة متفاوتة وفق الحاجة إلى «شد العصب»)، ليتم تحت شعار حماية الوجود ضرب النقاش حول الحقوق الفردية وسلب المكتسبات وإسكات المطالب وتمرير الفساد والهدر وسوء الإدارة، فقُوض منطق الدولة والمواطنة على حساب منطق الجماعات الطائفية والرَعايا، بخيار إرادي لأغلبية من الشعب.

من هنا، يمكن لنا أن نفهم أن أكثرية من اللبنانيين– على اختلاف انتماءاتهم– تعي مشكلاتها المعيشية وتعرف مسببيها وتدرك المسؤولين عن مأساتها ووجعها وتعرف مكامن الهدر والفساد والمفسدين، ولكنها تنحاز إلى جلاديها وتجنح لانتخابهم وتكريس تسلطهم عليها... وكلمة السر هي «الهوية».

فالذي يَمنع شريحة عريضة من الشعب اللبناني من التحرك ضد القوى الحاكمة وسياسة السلطة الفاشلة اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، وانتفاضة ضد الفساد والإذلال والإفقار، هو صراع فكري يدور في العقل الفردي والجماعي اللبناني بين سياسات الهوية وسياسات التنمية.

وعلى رغم وجود خيارات جديدة جدية ومتقدمة في تقديمها «سياسات التنمية»، طرحت وتطرح قضايا معيشية وتنموية مرتبطة بحقوق المواطن السياسية والاجتماعية والاقتصادية (حول الدستور والانتخابات والعمل والنفايات والضرائب والفساد والسلسلة وغيرها...)، تبقى أصوات قوى «سياسات الهوية» أعلى في طرحها لقضايا الوجود والكرامة الجماعية والتهديد بالإلغاء وحقوق الجماعة. فيكون المواطن أمام مهمة شاقة لترتيب أولوياته بين «الوجود» و «الحقوق»!

يبقى السؤال: هل يمكن لشريحة اللبنانيين التي تخاف على وجودها وترى مصلحتها في تأييد «سياسات الهوية»، أن تتجاوز هذه الحالة العصبوية نحو الالتحاق بنسبة كبيرة من المؤمنين بأولوية حقوق المواطن وفاعليتها في بناء الدولة والثقة والأمان على حساب الهوية الطائفية؟

يقدر أن الإجابة في ٦ أيار (مايو) الجاري ستكون في التوجه لرفض نماذج «ترامب– لوبان» بنسب مفاجئة، نحو خيار يمزج بين مشروع إيمانويل ماكرون- لبناني يستقطب الصوت المعترض على المستثمرين في الخوف، ومشروع بيرني ساندرز- لبناني يقدم البديل التنموي الجدي ويخرق جدار الهوية... ويطلق مسار التغيير!

* كاتب وناشط لبناني