حسين معلوم

أن يلتقي سفراء الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، في «خلوة» باكاكرا في السويد، فهذا في حد ذاته ليس بجديد، لأنه «تقليد» سنوي يقوم به أعضاء المجلس. لكن الجديد هذه المرة، هو محاولة الأعضاء البحث عن توافقات حول الأزمة السورية، والعودة إلى قوة «الديبلوماسية» في شأن هذه الأزمة، وذلك بعد أن شهدت جلسات مجلس الأمن توتراً حاداً بين أعضائه، خلال الشهرين الماضيين عموماً، نتيجة الانقسامات الحادة بين موسكو وواشنطن حول الهجوم الكيماوي على مدينة دوما، وما تبعه من عمل عسكري قامت به واشنطن ولندن وباريس. لم يكن الهدف الأول لهذه «الخلوة» هو النزاع في سورية، إلا أن الأزمة في هذا البلد شغلت حيزاً لا بأس به من مناقشات الأعضاء، نظراً إلى ما تسببه من انقسام في مجلس الأمن. ومن ثم، خرج المجتمعون بإفادة مؤداها «الرغبة» في كسر الجمود حول وسائل تسوية الأزمة سياسياً. أما كيف يكون ذلك، وما هي وسائل التسوية، وما هي المسارات التي يُمكن اتباعها، وهل تختلف عن تلك المتبعة حالياً من جنيف إلى سوتشي إلى آستانة، ثم، هل تُمكن تسوية الأزمة، سياسياً، في ظل الاختلافات الكبرى بين أعضاء مجلس الأمن؟ هذه، وغيرها، تساؤلات لا تجد ملامح إجابة عليها في إطار «الرغبة» التي يتحدث عنها الأعضاء.

والواقع، الذي لا يُمكن تجاهله أو صرف النظر عن مؤشراته، أن الاختلافات بين أعضاء مجلس الأمن، خصوصاً الدول الخمس الدائمة العضوية فيه، حول المسألة السورية، لا تعود فقط إلى مجرد مصالح مجموعة القوى الدولية الكبرى، التي تتقاطع في هذه المنطقة من العالم، ومحاولة تحقيقها عبر البوابة السورية، ولكن، إضافة إلى ذلك، فإن تحركات هذه القوى، وتقاطعاتها الاستراتيجية، تؤشر إلى تحول المسألة السورية إلى محطة رئيسة ترتسم من خلالها أبعاد النظام الدولي المقبل.

وبكلمة، يبدو أننا نعيش في الراهن مرحلة فارقة بين نظام دولي حاولت الولايات المتحدة السيطرة عليه، والتحكم في تفاعلاته، عبر إعلان نفسها قطباً عالمياً واحداً، وبين نظام دولي جديد تدفع روسيا والصين نحو تشكله ليكون متعدد الأقطاب. يبدو أن ملامح هذا النظام الجديد، سترسمها تجاذبات القوى في شأن الشرق الأوسط الجديد، الذي تتشكل ملامحه الرئيسة انطلاقاً من الأراضي السورية. إذ، لا يخفى أن أهم أسباب امتداد الأزمة بتعقيداتها وتشابكاتها يستند إلى كونها أصبحت محوراً رئيساً للترتيبات الدولية والإقليمية المقبلة.

من هنا، تتبدى الأرضية التي تنطلق منها الاختلافات داخل مجلس الأمن، هذه الاختلافات التي ترتكز على المقاومة الأميركية الشرسة للتحولات الجارية على ساحة العلاقات الدولية عموماً، وتركزها على محاولة منع روسيا، والصين، في تحقيق مكانة دولية رئيسة. وبالتالي، يتضح المغزى الحقيقي لتحالف لندن وباريس، مع واشنطن، هذا، على رغم الخلاف الواضح بين واشنطن وباريس في شأن عدد من الملفات الخاصة بقضايا الاقتصاد والتجارة الدولية، وغيرها. ومن هنا، تتبدى أهم الأسباب للضربة الثلاثية، التي قام بها التحالف الثلاثي «الغربي». إذ، لنا أن نُلاحظ أن هذه الضربة جاءت بعد قمة أنقرة، التي سعى فيها التحالف الثلاثي «الشرقي»، روسيا وتركيا وإيران، إلى محاولة صوغ معادلات جديدة، لتهميش الدور الأميركي في أي صفقة سياسية لتسوية الأزمة السورية، خصوصاً بعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب غير مرة نيته الانسحاب العسكري من سورية. ولأن الائتلاف الدولي، أو «الغربي» بالأحرى، ضد «داعش»، سينفرط عقده في حال مغادرة القوات الأميركية سورية، أو حتى الإبقاء عليها في شكل رمزي، خصوصاً أن الدول الغربية الأخرى لا تستطيع فرض سيطرتها على الأراضي السورية، الشرقية والشمالية الشرقية، الغنية بالنفط والغاز، لذا، قام التحالف الثلاثي الغربي بتنفيذ الضربة إياها. ضمن أهداف هذه الضربة، إذاً، يأتي تبيان الحضور الغربي في الأزمة، وفي مسارات تسويتها المستقبلية، نظراً إلى ارتباطها بما يتجاوز الأراضي السورية، نحو قضايا دولية خلافية بين الغرب وبين روسيا. هذا، فضلاً عن تأكيد عدم التفرد الروسي بمستقبل التسوية في سورية، أو أن موسكو قادرة على صياغة مفهوم جديد للشرق الأوسط، وفقاً لرؤيتها ومصالحها بدءاً من سورية، أو حتى بالتنسيق بينها وبين حليفتيها إيران وتركيا. إلا أن الأهم، في هذا الإطار، هو استهداف الضربة إعادة توجيه مسار الصراع في سورية وفق تقاسم جديد، تُراعى فيه مصالح الغرب عبر تفعيل الدور الفرنسي- المتوافق راهناً مع الرؤية الألمانية- بما يخدم الدور الأوروبي ومصالحه، ويحافظ في الوقت نفسه على المصالح الأميركية، بما فيها رؤيتها للمسألة الكردية في سورية.

ولا عجب، والحال هذه، أن تنشط روسيا للرد على الضربة الثلاثية للتحالف الغربي. إذ، لنا أن نُلاحظ دلالات تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، باستعداد بلاده لتزويد دمشق بصواريخ «أس 300»، بما يعني التلويح بإمكانية تخلي روسيا عن وعدها للغرب بعدم إبرام هذه الصفقة، وبما يؤشر، أيضاً، إلى السعي الروسي إلى تحميل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين مسؤولية إضعاف مسارات التسوية السياسية للأزمة السورية، خصوصاً مسار جنيف المُفضَل أميركياً وأوروبياً. ويأتي، في هذا الإطار، استعداد التحالف الشرقي، أو تحديداً «ثلاثي آستانة»، لعقد جولة مباحثات خلال الأيام المقبلة «آستانة 9»، في محاولة لاستباق اللقاء الأميركي الأوروبي أواخر الشهر الجاري في بروكسيل، للبحث في الأزمة السورية.

والملاحظة الجديرة بالاهتمام تتعلق بالموقف الصيني من الأزمة السورية، ودخولها على خط هذه الأزمة، إذ، على وقع احتدام الجدل بين الدول الغربية وبين روسيا حول الهجوم الكيماوي في «دوما»، نشطت الديبلوماسية الصينية على خط تفعيل دورها في ترسيم ملامح حل الأزمة، وذلك عبر الاتصالات التي أجراها أخيراً الرئيس الصيني، شي جينبينغ، مع رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بما يؤشر لبداية بروز لاعب جديد، بل مؤثر، في الأزمة السورية، وفي الشرق الأوسط عموماً. ولعل الدوافع، هنا، متعددة، وأهمها ما يتعلق برغبة بكين في إبقاء وجودها الفاعل في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط والغاز لتأمين متطلبات التنمية الاقتصادية، التي تُعد الهدف الأكبر للسياسة الصينية، هذا، فضلاً عن استشعار الصين لمدى خطورة الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المحيط الهادئ.

في هذا السياق، لا يُمكن صرف النظر عن احتمال تشكل تحالف رباعي، في مواجهة التحالف الغربي الأوروبي- الأميركي، وفي ما بين مثل هذه التحالفات يثور التساؤل حول مستقبل سورية، ووحدة أراضيها. ناهيك عن التساؤل حول الموقف العربي مما يحدث في هذا البلد، على الأقل من منظور تحول سورية إلى محطة ترتسم من خلالها ملامح النظام الدولي المقبل، وتداعياته الإقليمية على ساحة الشرق الأوسط.

* كاتب مصري