أكرم البني

يعدّ أمراً مألوفاً تبادل عبارات التهديد والوعيد بين تل أبيب وطهران، وصلت على لسان زعماء إيران إلى التهديد بإزالة إسرائيل من خريطة المنطقة، بينما توعدتهم الأخيرة بإعادة جمهوريتهم إلى العصور الحجرية، ومع أن تلك التهديدات تجلت أحياناً بعمليات اغتيال متنوعة، وأحياناً بحروب غير مباشرة في لبنان وغزة، لكنها تنذر اليوم باقتراب المواجهة العسكرية المباشرة بينهما، يحدوها فشل مختلف السبل لتغيير سلوك طهران والحد من طموحاتها، ونضوج دوافع لدى حكام تل أبيب في توسل خيار الحرب لوضع حد لما يعدّونها تطورات نوعية عززت تهديد إيران وخطورتها على أمن دولتهم ومصالحها الراهنة والاستراتيجية.

أولاً: إصرار إيران على الذهاب بعيداّ في امتلاك سلاح نووي، ربطاً بتنامي الشكوك حول عدم التزامها بالاتفاق النووي مع الغرب وحول نشاطات غامضة لمشروعها العسكري السري، وتكرار تجاربها المستفزة لصواريخ باليستية بعيدة المدى، وهو أمر تتابعه إسرائيل بمنتهى الجدية وتعدّه خطاً أحمر لن تسمح بتجاوزه مهما تكن النتائج، بدليل أنها لم تتلكأ في توجيه ضربات شديدة لإجهاضه، كالتصفيات المتتالية لعلماء إيرانيين واعترافها مؤخراً بأنها دمرت موقع «الخبر» في سوريا بوصفه جزءاً من البرنامج النووي الإيراني، وما يزيد الأمر وضوحاً تصاعد أصوات «الصقور» في إسرائيل الذين يشجعون خيار الحرب بصفته المخرج الوحيد لمنع حدوث أي تغيير نوعي في الستاتيكو القائم، وأيضاً ما رشح من وجود ضوء أخضر أميركي لإسرائيل كي تضع حداً للطموحات الإقليمية الإيرانية، ووعد بتقديم كل أشكال الدعم بما فيه القنابل الضخمة لاختراق الأنفاق وتدميرها.

ثانياً: اتساع المساحة الجيوسياسية في الإقليم التي باتت تحت سيطرة زعماء طهران، مما يمنحهم قدرة أكبر على المواجهة والأذى، وعلى تخزين وإخفاء ما يريدون إخفاءه من الأسلحة الاستراتيجية، خصوصاً في سوريا، الأمر الذي تعدّه إسرائيل تطوراً خطيراً لا يمكن تمريره، أو السكوت عنه، وهي خير من يعلم بما صارت إليه أحوال النظام السوري وتالياً مدى ارتهانه لإرادة طهران، وضعف قدرته على حماية الحدود معها، زاد الأمر خطورة تقدم دور «حزب الله» والميليشيات الموالية لـ«الحرس الثوري» في الصراع السوري، ووصول بعضها، في سياق مواجهته للمعارضة المسلحة، إلى مواقع قريبة جداً من الجولان المحتل.

وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تتأخر في التصدي لهذه المستجدات عبر غارات نوعية وقصف متواتر لمنشآت استراتيجية سورية ولقوافل عسكرية كانت في طريقها إلى «حزب الله»، ولبعض المواقع التي تتمركز فيها قوات «الحرس الثوري» وآخرها مطار «التيفور» العسكري، تلاه تدمير مخزون كبير من الأسلحة الصاروخية في مخازن «اللواء 47» قرب مدينة حماة، ما أدى إلى قتل وجرح العشرات من الضباط والكوادر العسكرية الإيرانية، فإن ذلك لم يشفِ غليلها ويطمئنها بأنها صارت في مأمن وأجهضت تماماً ما يبيته قادة طهران ضدها.

ثالثاً: ثمة غطاء سياسي موضوعي يشجع إسرائيل على شن الحرب، وهو تقدم مناخ عام يناهض سياسة إيران وممارساتها في المنطقة، إنْ لجهة الرفض الإقليمي لعنجهيتها واتساع تدخلاتها في شؤون الآخرين وتوغلها الدموي المخيف في صراعات سوريا واليمن والعراق وغيرها؛ وإنْ لجهة التصعيد اللافت للرئيس الأميركي ضدها ومهاجمتها بصفتها راعية للإرهاب، وتشدده المعلن في التعاطي مع الاتفاق النووي، إنْ بإلغائه أو تعديله؛ وإنْ لجهة حضور مصلحة روسية مضمرة يهمها تحجيم الحضور الإيراني في سوريا وما يطمح إليه.

رابعاً: ما يشجع إسرائيل أكثر على الخيار العسكري تقديرها لشدة الانشغال الإيراني في جبهات متعددة، مما استنزف قدراتها وجعلها عاجزة عن إدارة معركة جديدة بحجم الحرب مع إسرائيل، فكيف الحال مع المظاهرات التي اندلعت في غير مدينة إيرانية، وكشفت هشاشة الوضع الداخلي، وحالة التدهور الاجتماعي والاقتصادي، ومدى الغضب الشعبي من الفساد والهدر واستمرار الخوض في مستنقع النفوذ الإقليمي على حساب التنمية الداخلية.

في المقلب الآخر، قد يصح القول، وعلى الرغم من التهديدات النارية التي تطلقها إيران وحلفاؤها ضد إسرائيل، إنه ليس من حاجة مباشرة ضاغطة على الإيرانيين أو دافع ذاتي ملح لافتعال حرب مع إسرائيل، وهم الغارقون حتى آذانهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين، والعاجزون عن إدارة حرب واسعة من زاويتي أهدافها وتكلفتها، اللّهم إلا إذا اعتبر الأمر خيار اليائس الذي لم يبق أمامه سوى المغامرة لربح كل شيء أو خسارة كل شيء، أو أدرج في إطار الرد الاستباقي على ما رشح من تحضيرات إسرائيلية لشن حرب ضد المواقع الإيرانية في سوريا، واستثمار هذه المبادرة الهجومية لخلط الأوراق وكسب نقاط تخفف من شدة أزمتهم، وفي الطريق تأكيد مصداقية طالما تبجحوا بها بأنهم لن يمرروا الضربات الإسرائيلية من دون عقاب، في رهان على تسخير حربهم ضد العدو التاريخي للعرب، لغسل أيديهم من الدماء العربية، والتعويل على أجواء تلك الحرب وما تثيره من مشاعر معادية لإسرائيل لاستعادة شعبية فقدوها، متطلعين لتكرار سيناريو حرب عام 2006 التي نجحت في إعادة ترتيب بعض الاصطفافات وعوضت خسارتهم الوجود العسكري السوري في لبنان.

ومع ذلك، يرجح أن تبقى تلك الحرب العتيدة، إن اندلعت، محدودة وتحت السيطرة، حتى لو اتسعت رقعتها لتشمل سوريا ولبنان وغزة، ربطاً بقدرة توازنات القوى الدولية والإقليمية على ضبطها، وأيضاً بحسابات التكلفة والثمن الباهظ جداً لكلا الطرفين إن طال زمن الحرب واشتد أوارها، والأهم ربطاً بوجود مصلحة موضوعية متبادلة ومضمرة بينهما، وإن كانت الفكرة تحمل بعداً تآمرياً، مصلحة لإسرائيل في استمرار دور إيران المهدد في المشهد السياسي لمحاصرة الأطراف العربية وشغلها، ومصلحة مكشوفة لإيران في الاتكاء على بقاء التهديد الإسرائيلي للهروب من أزماتها وتبرير سياستها التدخلية في شؤون المنطقة.