عبد الرحمن شلقم

 قرر الكنيست الإسرائيلي تفويض رئيس الوزراء ووزير الدفاع شن الحرب من دون الرجوع إلى مجلس الوزراء الموسع. لماذا؟ هل هو الخوف من تردد المجلس الموسع، أم أن النقاشات الموسعة ستعطل سرعة اتخاذ القرار؟ قرار الحرب في كل مكان وزمان هو حالة تتداخل فيها أطياف الخوف والشجاعة، الإقدام والتردد، الحسابات السياسية والعسكرية. 

الحرب تعني أن تقتل جنود عدوك، وأن يموت أبناؤك من أجل تحقيق ذلك. إسرائيل - حالة - في حروبها يتداخل فيها الاجتماعي بالتاريخي واللاهوتي، يتكون جيشها من المجندين بالدرجة الأولى، وهم يتحدرون من أنسجة اجتماعية متنوعة وفدت إليها من ثقافات وبلدان مختلفة، وهي بحكم ذلك لا تستطيع خوض الحروب الطويلة، وتعتمد على قوتها الجوية الضاربة بقوة الدعم الأميركي اللامحدود لها بأحدث الطائرات.
قرار الحرب مخيف في كل زمان ومكان. قبل شن إسرائيل حرب 1967 على مصر، وسوريا، والأردن عاشت الدولة العبرية في كابوس كثيف. تردد رئيس الوزراء آنذاك ليفي أشكول، وكان يشغل أيضاً منصب وزير الدفاع، في الموافقة على قرار الحرب بعد طلب مصر سحب القوات الأممية بين البلدين بعد قرار مصر إغلاق مضائق تيران، ورفضها طلب الأمين العام للأمم المتحدة يوتانت التراجع عن سحب القوات الأممية. تقدم قادة الأركان الإسرائيليون إلى رئيس الوزراء بطلب حاسم، وهو الاستعداد للحرب وفرضوا عليه الجنرال موشي دايان وزيراً للدفاع. لم يجد رئيس الوزراء مناصاً من الخضوع لهم وتلبية طلبهم والاستعداد للحرب.
هل كان ليفي أشكول خائفاً من الحرب، أم كان يرى أن أبواب السياسية لم تغلق نهائياً، وأن أميركا والاتحاد السوفياتي لهما القدرة على إيجاد مخرج للأزمة؟
في المقابل، كان الرئيس جمال عبد الناصر يدرك جيداً أن غلق مضائق تيران وسحب قوات الأمم المتحدة يعني إعلان الحرب مع إسرائيل، لكن الاتحاد السوفياتي طلب منه ألا يكون البادئ بها.
بين الطرفين كانت «حالة الحرب» ذاتها في وضع الخوف.
الحرب، وعاء الجمال الذميم، فيها ومنها تندفع رائحة النصر والهزيمة. وقد تلد الأولى من الثانية، والعكس وارد دائماً. وهنا تكمن صُرَّة الحالة. إسرائيل خاضت حربين ضد العرب، هما حرب فلسطين التي أدّت إلى استيلائها على أرض أكثر من تلك التي كانت مقررة لليهود في قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وحرب السويس التي أرغمت فيها من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي على الانسحاب من سيناء مع شريكتيها في العدوان على مصر فرنسا وبريطانيا. إذن النصر في الأولى والانكسار في الثانية جعل ـ حالة الحرب ـ متعددة الألوان والنتائج.
في 30 سبتمبر (أيلول) سنة 1938 وقّعت معاهدة ميونيخ ألمانيا النازية، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا. كانت تسوية تسمح لألمانيا بضم إقليم السوديت التشيكوسلوفاكي الذي يضم أغلبية ناطقة باللغة الألمانية. برر رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشمبرلين توقيعه عليها بتفادي حرب عالمية، لكن السياسي البريطاني آنذاك ونستون تشرشل هاجمه بقوة قائلاً: إن هذه الاتفاقية ستفتح أبواب جهنم على أوروبا، وستقود إلى حرب شاملة؛ لأنها ستفتح شهية هتلر للاستيلاء على المزيد من الأراضي. سميت سياسة تشمبرلين تجاه هتلر بسياسة «التهدئة»، لكنها في الحقيقة كانت حالة الحرب الخائفة؛ إذ لم يكد العالم وبالذات أوروبا تتعافى من جروح الحرب العالمية الأولى، وتجتهد لإزالة صورتها حتى طفح فوق بقايا دم الحرب الأولى شبح هائج مغامر هو أدولف هتلر. الحرب يتراجع خوفها مع حرارة التعبئة وشحنات الكراهية والتأجيج القومي الشوفيني العنصري، وينسحب من على وجهها قناع الخجل وتبدأ تسيح فوق تضاريس النفوس وتجرف ما في العقول من تعلق بالحياة التي يؤمّنها فردوس السلام.
استطاع ونستون تشرشل الداهية السياسية أن يرش سائل القوة فوق وجه الحرب، وقال للشعب البريطاني «ليس لديكم عندي إلا الدم والدموع والعرق». هكذا أزال الخوف من صُرَّة الحرب. بعد اندفاع هتلر نحو بولندا تحققت نبوءة تشرشل، وتهاوت شعبية تشمبرلين، وغادر محفل السياسة تاركاً مكانه للقادم الجديد القديم ونستون تشرشل.
شخصيتان سياسيتان، هما ستالين الزعيم السوفياتي وموسوليني الدوتشي الإيطالي بقيا ينظران إلى التطورات عبر منظار الحرب الخائفة. ستالين اتصل بهتلر مهنئاً باحتلاله باريس، أما موسوليني فلم يكتف بالتهنئة، بل أعلن الحرب على كل من فرنسا وبريطانيا إلى جانب هتلر، الجنرال فرانكو الزعيم الإسباني الذي تلقى الدعم من هتلر وموسوليني في حربه الأهلية ابتعد عن تلك الحرب متخذاً مكان الحياد.
في عام 1962 طافت سحابة النار على الدنيا، وصرخت نواقيس الحرب في الرؤوس عندما نشبت حرب الاستنفار بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية بسبب أزمة الصواريخ الروسية في كوبا. نشر خرتشوف صواريخه في كوبا على بعد أميال من اليابسة الأميركية. عندما وصلت المعلومات إلى واشنطن اتصل الرئيس جون كنيدي بحلفائه الأوروبيين، أكد له الفرنسيون وجود الصواريخ السوفياتية في كوبا، لكن الروس نفوا ذلك. تصاعد الموقف وأصبح العالم على حافة حرب كونية. تراجع السوفيات وجرت ترتيبات عاجلة لتفكيكك ماكينة الحرب في الرؤوس وعلى الأرض. لقد خافت الحرب وطأطأت رأسها.
اليوم، ترتفع أصوات الوعيد والتهديد بين أكثر من طرف دولي، تلوح نيران المواجهة في أكثر من مكان، لكن ـ الخوف قوة ـ يفعل فعله في الرؤوس، تحول إلى كائن مسلح حاضر على موائد القرار.
الحرب الباردة، وصف لحالة من الشد السياسي في العلاقات الدولية، كتلتان متحفزتان تحفهما قوة عسكرية، هما حلف الناتو وحلف وارسو. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومعه شرق أوروبا وانهيار جدار برلين وولادة الاتحاد الأوروبي وبروز الصين قوة اقتصادية ضاربة، تغيرت السياسات والأفكار وأصبحت العولمة قوة مضافة إلى الرؤى الإنسانية، اللغة السياسية والاقتصادية شهدت مصطلحات جديدة ومناهج حديثة في التفكير وأساليب اتخاذ القرار. أوروبا لم تعد قوة تابعة للولايات المتحدة الأميركية خوفاً من القوة السوفياتية الضاربة المجاورة. القوة ذاتها تغير تكوينها ومعطيات استخدامها وحدود فعلها، السلاح الذري يخيف من يمتلكه قدر ما يخيف العدو، والعالم كله يركض نحو التطور من أجل الرفاهية وتحقيق السعادة التي تلهب آمال الشعوب وأحلامها، والرأي العام المُعولم قوة ضاغطة عابرة للحدود. 
الحرب الخائفة، هي اليوم «الكائن» الذي يتمدد على موائد صناع القرار. التغير الذي ضرب رأس الزعيم الكوري الشمالي، سيضرب رؤوساً كثيرة.