حسين عبد الحسين

يصادف يوم غد الذكرى الـ 52 لاغتيال الصحفي اللبناني، مؤسس صحيفتي الحياة ودايلي ستار، كامل مروة (16 أيار/مايو 1966).

قبل نحو عقدين، جلست في حديقته في بيت مري اللبنانية بضيافة ابنيه العزيزين، جميل ومالك، وحدثني حنا، أحد معاصري الراحل، عن سبب وكيفية اغتياله. قال حنا إنه في ربيع العام 1966، أدلى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بخطاب قال فيه إن القوة الجوية المصرية صارت تسيطر على سماء العالم العربي، من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، وإن هذه القوة المصرية قادرة على محو إسرائيل.

علق مروة على خطاب عبد الناصر في افتتاحية في الحياة كتب فيها أنه إذا كان عبد الناصر قويا بما فيه الكفاية للقضاء على إسرائيل، فماذا ينتظر؟ وأضاف مروة أنه إذا كان عبد الناصر نمرا من ورق، فالأفضل له وللعرب أن يعفيهم من خطاباته العنترية الفارغة.

لم يستسغ "المارد الأسمر" و"بطل العرب الأسطوري" عبد الناصر مقالة مروة، فأرسل أحد مناصريه لاغتيال الصحافي اللبناني في بيروت، كما يروي حنا. كان كامل مروة جالسا في مكتبه حينما ظهر أمامه قاتله وهو يحمل مسدسا كاتما للصوت. استل مروة الدباسة من على مكتبه ورماها باتجاه الزجاج بهدف كسره وإحداث ضجيج يلفت نظر زملائه، لكن قاتله أرداه بطلقتين أصابتاه في قلبه.

لم تغضب جماهير العرب لمقتل مروة، ولم تخرج في تظاهرات ضد مقتله، بل هي خرجت في تظاهرات حاشدة تبكي موت "قاتله" عبد الناصر بعد ذلك بأعوام قليلة.

لا يبدو أن جيل "الزمن الجميل" من العرب كان يحزن لتكميم الأفواه وقتل الصحافيين، بل كان جيلا تثيره الخطابات النارية الشعبوية وأغاني السد العالي. ثم بعد عام وعشرين يوما على مقتل مروة، تكبد عبد الناصر، ومعه سورية والأردن، أفظع خسارة عسكرية أمام إسرائيل في "حرب الأيام الستة"، وأصيب جيل العروبة والناصرية بأكبر موجة إحباط أنهت "الزمن الجميل" برمته، مع قوميته وعلمانيته، وفتحت الباب أمام صعود الإسلاميين وتطرفهم.

لم تتوقف هزائم العرب، لا قبل إسرائيل ولا بعدها، بل كانت كلها هزائم مكللة بالأهازيج والفخر. يوم رسا نابليون على شواطئ مصر، توعده حكامها بتحطيم جيشه تحت حوافر خيولهم. ظهر نابليون في القاهرة مع مدفعيته التي أعمى بريقها عيون المصريين.

في 1948، هب العرب لإنقاذ فلسطين بعد قيام دولة إسرائيل. حدثني المؤرخ العزيز الراحل كمال الصليبي أن الطلبة الفلسطينيين في "الجامعة الأميركية في بيروت"، بقيادة جورج حبش، فتحوا باب التطوع في تظاهرة حاشدة في حرم الجامعة، وتواعدوا اللقاء ذاك المساء لإجراء فحوص دم للمقاتلين المتطوعين وتنظيم صفوفهم. حضر الصليبي وطالب آخر فقط. حتى حبش، الذي ألهب خطابه جمهور الطلاب، لم يحضر. يقول الصليبي: "حتى فئة دمي أخطأوا في تحديدها".

وهكذا دواليك، نكبة، فخطابات، فحماسة، فهزيمة، فخطابات، فحماسة، فنكسة، فخطابات، فحماسة، فـ"نصر إلهي" تحت الركام.

وكأن العرب لا ينقصهم ما فيهم، فاندب الإيرانيون فوقهم. اليوم، كما في 1966، يكرر الإيرانيون أنهم قادرون على محو إسرائيل في سبع دقائق ونصف. تدمر إسرائيل البنية التحتية العسكرية الإيرانية في سورية عن بكرة أبيها، فترد إيران بعشرين صاروخا يسقط نصفها في لبنان وسورية. يحدث أن يتسلل صاروخ إيراني أو أكثر إلى الأجواء الإسرائيلية، فيهلل العرب، ويلوح لهم "التحرير" في الأفق، مع أن صواريخ إيران بالكاد كسرت لوح زجاج في إسرائيل.

لم تفطن أجيال العرب أن النكبة ليست في فقدانهم السيادة، بل في تخليهم عن الحرية. ولم يفطن العرب أن صلاحهم ليس في صواريخهم، ولا في صواريخ الإيرانيين، بل في مقدرتهم على التشكيك في إيران وصواريخها، وفي عبد الناصر ومقاتلاته، وفي حكم آل الأسد ودمويتهم وفسادهم.

في عام 2000، يوم انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، لم يعلن رئيس حكومة إسرائيل آنذاك إيهود باراك الأحكام العرفية، ولا هو قضى على خصومه السياسيين والإعلاميين بحجة الوضع الطارئ الذي لا يحتمل الاختلاف في الرأي، بل هو فعل عكس ذلك تماما: دعا لانتخابات أطاحت به واستبدلته بأرييل شارون.

في مواجهة الأزمات، تقوم الشعوب والأمم المتحضرة بإفساح المجال أمام الآراء المعارضة، وتجري الانتخابات لاختيار الوسيلة الأفضل للتعامل مع الأزمة. بريطانيا انتخبت ونستون تشرشل رئيسا لحكومتها في ذروة المواجهة مع ألمانيا النازية، وإسرائيل انتخبت شارون في وسط المواجهة مع الفلسطينيين، وأميركا استبدلت الغالبية الجمهورية في الكونغرس بغالبية ديموقراطية في وسط الحربين الأميركيتين في العراق وأفغانستان.

أما حكام العرب والفرس، فيواجهون نكباتهم ونكساتهم بالصواريخ والكيميائي والبراميل المتفجرة. يرمون منها القليل القليل على أعدائهم، ويرمون الغالبية المتبقية على من يخالفهم الرأي في الوطن.

لم تكن نكبة العرب يوما خسارتهم أرضا أو حربا، بل لطالما كانت نكبتهم في قيام حكامهم بإخفاء تسلطهم وإجرامهم خلف الكرامة الوطنية المتخيلة والعنفوان، وهو ما يطرح على العرب السؤال الذي نكرره دائما: ما فائدة فلسطين محررة إن كانت الحرية لا تتسع لمفكرين أحرارا من أمثال كامل مروة؟