سمير عطا الله

 استضافت بيروت نبلاء العرب القادمين إليها من كل بلدٍ قسى على أبنائه. لكن هذا الأشيب الأسمر الفارع القامع الدائم الابتسامة كان فريداً بين المنفيين. فاليمن لم يكن اسماً شائعاً بين الدول بل اسم غامضٌ يذكر بالأساطير والقلاع والموانئ المغلقة، والأسوار التي تقفل أبوابها الصغيرة مع الغروب. طبيعي أن نتوقع أن يكون اليمني القادم يعلّق خنجره في جنبيته. وبما أنه أزهري في العلم، فلا بد أن يكون ملتزماً في الحياة. غير أن أحمد النعمان كان صورة العربي كما وردت أوصافها في أشعار العرب ومقاماتهم. وكان يطلّ على القضايا والنزاعات والخلافات من برجٍ عالي الرؤية. فما من نقاش سياسي يمكن أن ينتزع منه ابتسامته وسعة صدره ووسع آفاقه. وبدا لنا أنه إنسان بلا خصوم، لا الإمامة التي ثار عليها، ولا عبد الناصر الذي أدخله الزنزانة رقم واحد طوال عامٍ كامل، ولا الرفاق الذين اختلف معهم في الفقه والأدب والشعر. وكانت له في الثلاثة حافظة باهية مثل حضوره. فإذا تحدّث حوّل المكان إلى رونقه وحده، وإذا جادل، جرّد معارضيه من سلاحهم وجعلهم يفضلون الإصغاء إليه.

تنقّل أحمد النعمان في المنافي التي سرعان ما أصبحت مواطن له، تحبه مثل أهلها، وتأنس لثقافته وعلمه. فإذا كان خير جليسٍ في الزمان كتابٌ، فإن النعمان كان مكتبةً يقظةً شاملةً وحاضرة أبداً لتحلية المجالس. بيروت القاهرة جدة وحتى جنيف. ولم يكن غريباً في أي مكان، غير أن منفى بيروت أصابه في كبده. فقد اغتال بعض الثورجييّن العرب ابنه البكر محمد ووريثه وتوأمه في الآداب والملاحات والنباهة. وأثكل الغياب أم محمد التي كانت بمهابتها ولباسها الوطني ترافق الأب بكل مكان. وحزن الرئيس سليمان فرنجية يومها مرتين: الأولى للنكسة التي أصيب بها أمن لبنان، والثانية لفظاعة الجريمة في حق أحد أبرز المسالمين العرب. وذهب الأستاذ الأب يشكر الرئيس اللبناني على تعزيته بابنه فقال النعمان للرئيس: «العزاء يا فخامة الرئيس، يجب أن يقدم إلى لبنان حكومةً وشعباً، لأنني إذا كنت قد فقدت ولدي، فإن لبنان قد فقد أمنه واستقراره، وما جئت لكي أستعيد ولدي بل جئت راجياً منكم استعادة أمن لبنان».
أصبحت بيروت ثقلاً عليه وعلى أم محمد. لكنه كان محاطاً هنا بعدد من الأصدقاء الذين رأوا فيه نوعاً من معلمٍ فكري وروحي. ولم نكن نلتقي الأستاذ في أي مناسبةٍ إلا ونشعر أننا خرجنا بدرسٍ جديد. فقد كان يزين الأحاديث والآراء بالشواهد والطرائف والصلابة وخفة الظل. وعندما غادر الأستاذ بيروت إلى جدة للإقامة على ساحلها بعيداً عن هذا المتوسط الذي خطف بكره باسم الدمويات الفارغة، شعرت بيروت أن أهميتها كملاذٍ لكبار العرب، قد ذرّت في الغبار.