حسين شبكشي 

إسرائيل تبقى الحاضر الغائب في منطقة الشرق الأوسط، أمس مرت ذكرى انتصار العاشر من رمضان، لحظة جميلة استثنائية في تاريخ العرب المعاصر في المواجهة مع إسرائيل.
ولكن اليوم إسرائيل تغيرت كما تغير الوضع العربي. بعد أن «اطمأنت» إسرائيل أن مدعي المقاومة وأصحاب صراخ العداء لها والتهديد المتواصل لها ما هم إلا مظاهر صوتية وأنظمة كاريكاتورية. فنظام بشار الأسد تحول إلى «ملطشة» من كل من هب ودب، ومن إسرائيل نفسها دون أي ردة فعل جادة ضد إسرائيل، وإيران لم تقم إلا «بخطب» و«مظاهرات» ضد إسرائيل، أما حسن نصر الله فهو بالنسبة لإسرائيل تحول إلى «مهرج» سياسي فقد كل قيمة ومصداقية وشعبية وجدارة في محيطه العربي وافتضح أمره بأنه طائفي بغيض تابع لمشروع تصدير ثورة إيران في المنطقة، لا أكثر ولا أقل.


بالتالي السؤال الذي يطرح نفسه هو: من هو عدو إسرائيل اليوم؟ إسرائيل التي احتفلت منذ فترة قريبة جداً بمرور 70 عاماً على تأسيسها وباعتراف أميركا بالقدس عاصمة لها وانتقال سفارتها لها، إلا أن هناك واقعاً مخيفاً يواجهها اليوم.
إنه «الخروج» الجديد. الخروج هي صفة توراتية كانت تصف حال خروج اليهود من مصر والعراق، ولكن اليوم خروج جديد ومختلف، إنها الهجرة المعاكسة لليهود إلى خارج إسرائيل. هناك مليون إسرائيلي في الولايات المتحدة في الفترة بين 2006 و2016 أكثر من 87 ألف إسرائيلي حصلوا على الجنسية الأميركية أو الإقامة في أميركا، وهو ما يمثل قفزة عن الرقم الذي حصل بين سنة 1995 حتى 2005. عندما كان العدد 66 ألفاً. هذا غير مئات الآلاف المنتشرين في أوروبا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والبرازيل والأرجنتين وغيرهم من الدول حول العالم.
إنها هجرة الأدمغة الكبرى. أهم العقول والباحثين والخبرات تترك إسرائيل إلى الغرب لأجل حياة أكثر أماناً واستقراراً ومدخول مادي أعلى. واليوم معدل الهجرة من إسرائيل هو الأعلى بين كل دول العالم الغربي. إسرائيل التي عرف عنها أنها أحد أهم مراكز بدء أنشطة شركات التقنية الحديثة والاقتصاد الرقمي الجديد ولديها فعلياً ونسبياً ازدياد شركات جديدة بادئة في مجال التقنية الحديثة أكثر من أي دولة أخرى في العالم، ويعمل في هذا المجال في إسرائيل 8 في المائة من قوة العمل الإسرائيلية، وهي تدفع رواتب بمعدل سبعة أضعاف المعدل العام، ولكن إسرائيل أيضا لديها أكبر فجوة اقتصادية بين المقتدرين وغير المقتدرين في العالم الغربي، بالإضافة إلى أعلى معدل للفقر أيضا.
تل أبيب اليوم تعتبر تاسع أغلى مدينة في العالم متخطية في ذلك لوس أنجليس ونيويورك، منذ خمس سنوات كان ترتيبها الرابع والثلاثين. وهناك سبب آخر لهجرة الإسرائيليين إلى خارج إسرائيل وهو أن إسرائيل تبتعد بقوة وبسرعة عن جذورها العلمانية والديمقراطية (حسب رأيهم)، فهي اليوم ملاذ آمن للمتطرفين من الأصوليين اليهود الذين يقودون حراك الاستيطان.
وهذا الحراك والوجود والحضور ينعكس بقوة على المشهد التعليمي والسياسي، وخصوصاً أن المناهج يزداد فيها جرعات الحصص الدينية، وفي تصريح لافت لمفكر يهودي قال فيه: أريد من إسرائيل أن تستمر ديمقراطية ويهودية وليست يهودية وديمقراطية.
الجرعة «اليهودية» المتزايدة في الحياة بإسرائيل جعلت البلد «محافظاً» بشكل واضح، لأن الذين يهاجرون منها هم «الليبراليون»، اليوم الأصوليين اليهود يشكلون 12 في المائة من تعداد سكان إسرائيل، ويتوقع أن يتضاعف عدهم أربعة مرات عام 2065. وهذا التطور في العدد السكاني لهذه الفئة المتطرفة انعكس على نظام تعليمي سيئ، ويتردى ليوصف اليوم بأنه أصبح يشبه نظم التعليم المتخلف لدول العالم الثالث على الأقل لنصف عدد السكان فيها.
وهذا الفئة تعيش عالة على المجتمع لأنها لا تتحصل على دخل كاف يؤهلها لدفع الضرائب، وبالتالي تعتمد على المعونات. هناك إسرائيل المتقدمة تقنياً وهناك إسرائيل الأصولية المتخلفة والفجوة تزداد اتساعاً. هناك قناعة اليوم أن اقتصادا لدولة من دول العالم الثالث (بالحال الذي تصل إليه الأمور لو استمرت على ما هو عليه) لن يستطيع دعم جيش من العالم الأول.
هذه مسألة وجودية بالنسبة لإسرائيل. إسرائيل اكتشفت اليوم أن عدوها الأول هو نفسها... من الداخل.