علي العميم

 حرص معدو وثيقة التعليم السعودي أن يرسخوا في ذهن الطالب السعودي أن وطنه السعودي ومجتمعه السعودي، ليس إلا وطنه ومجتمعه الخاصين. فوطنه ومجتمعه النهائيان والحقيقيان هما الوطن الإسلامي والمجتمع الإسلامي.

إن الوطن والمجتمع السعوديين لا يُتَحدث عنهما في بنود الوثيقة التي تطرقَتْ إلى ذكرهما، بوصفهما كيانين مستقلين، وبمعزل عن الوطن والمجتمع الإسلاميين المعاصرين. وفي بنود الوثيقة التي تحدثتْ عن السعودية على نحو مستقل - كما في بند الأهداف العامة وفي بندين بأهداف مرحلة التعليم الابتدائي وفي بند لمرحلة التعليم المتوسط - نلحظ ما يلي:
أن السعودية عرّفت بأنها دولة إسلامية، مع أنها قبل أن تكون دولة إسلامية، هي دولة عربية، واسمها الكامل والرسمي يعلن أنها دولة عربية. وأنه قُفز على أهميتها ودورها في المجال العربي. وحُصر دورها بالمجال الإسلامي والمجال الدولي، وقُلّص هذا الدور إلى دور ديني دعوي تبشيري. وقُصرت أهميتها على الأهمية الدينية التي يعنى بها المسلمون كافة. وهذا يعني أنها من دون هذه الأهمية، هي عطل من أي أهمية أخرى.
السعودية في بنود الوثيقة هي بمثابة منزل أو سكن خاص. وهذا المنزل هو ضمن منازل كثيرة في بيت كبير. وبتحوير آية إنجيلية اقتبسنا منها الكلام السابق يكون الإسلام صاحب البيت الكبير. فالإسلام مع هذا التحوير حلَّ محل «الأب» الذي هو صاحب البيت الكبير، كما في نص الآية الإنجيلية. وما يميز المنزل السعودي عما سواه من منازل كثيرة يضمها ويضمه البيت الكبير، أنه منزل ديني لكل المسلمين. وما يشترك فيه هذا المنزل مع المنازل الكثيرة، هو أن المواطنة فيه وفيها، مواطنة دينية أممية، تستعلي على اختلاف البلدان واللغات والثقافات والوطنيات والجنسيات، وتتجاوزها جميعاً، بهوية الأخوية الدينية الإسلامية وبجنسية الإسلام. 
وعلى عكس شعار التضامن الإسلامي المرفوع في السعودية بشدة في وقت كتابة الوثيقة، كان شعار الوحدة الإسلامية حاضراً بقوة في العديد من بنود الوثيقة وبطرق شتى.
وسأورد نص البنود التي دعت إلى شعار الوحدة الإسلامية بطريقة مباشرة.
في البند الثاني والعشرين من أهداف مرحلة التعليم الثانوي يقول هذا البند: «الإيمان بوحدة الأمة الإسلامية، واستشعار مهمتها العالمية ووظيفتها الحضارية وتحقيق الانتماء إلى أمة الإسلام».
وفي تتمة بند من بنود أهداف مرحلة التعليم الابتدائي تقول هذه التتمة: «تم التعرف على أجزاء من الوطن العربي والإسلامي حيث عاشت الأمة العربية والإسلامية دولة واحدة منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان».
وفي أول بند من بنود أهداف هذه المرحلة، يقول البند الآخر: «يجب أن تتيح المدرسة لتلاميذها الفرص التي يقف التلاميذ من خلالها على مكان الأمة العربية والإسلامية، وما كانت تتمتع به من قوة وعزيمة وكرامة حين كانت أمة متحدة، وما تحقق لها من أمجاد وحضارة في ظل وحدة الهدف...».
وفي بند من بنود أهداف مرحلة التعليم المتوسط، يقول هذا البند: «إبراز فكرة الوحدة بين أجزاء الوطن الإسلامي والعربي. وعلى الأقل الهدف في بيان أن مثل هذه الوحدة تشكل في مجموعها وحدة إسلامية متكاملة تستطيع أن تحدث التوازن المطلوب بين الكتلتين الشرقية والغربية».
نرى في بندين من البنود السابقة أن معدي الوثيقة، ليمنحوا شعار الوحدة الإسلامية سنداً تاريخياً، قدموا معلومة غير دقيقة، فالدولة الإسلامية لم تكن دولة واحدة إلا لمدة زمنية تزيد عن القرن بما يقرب من عقدين. وكذلك الأمة الإسلامية لم تكن أمة متحدة. فمنذ أول دولها كان ثمة خلاف على شرعية الخلافة وصراع على السلطة ومعارضات مسلحة وفتن وثورات، استطاع بعضها إسقاط دول وإمارات وإقامة دول وإمارات حلت محلها. فالتشرذم والانقسام سمة واضحة في تاريخنا العربي والإسلامي. أما البند الأخير فهو يتحدث عن الكتلة الإسلامية، وهي فكرة آمن بها سيد قطب مع بدايات تحوله إلى اتجاه إسلامي أصولي ثم تخلى عنها. وكان الاتجاه الإسلامي الأصولي في الهند وفي باكستان يدعو لها بحرارة منذ منتصف القرن الماضي. وتختلف هذه الكتلة عن الكتلة الشرقية وعن الكتلة الغربية في أنها تريد إقامة تحالف سياسي وآيديولوجي على أساس ديني، وليس على أساس سياسي واقتصادي وعسكري وآيديولوجي مشترك، كما هو حال الكتلة الشرقية والكتلة الغربية.
وسبب فشل تلك الفكرة أنها تتناقض مع الرابطة الوطنية والقومية ومع مفهوم الدولة الحديثة. وأن دول العالم الإسلامي ليس بوسعها أن تقيم تكتلاً عالمياً ثالثاً، فهي ليست من التقدم والقوة بحيث يتيسر لها أن تفعل ذلك. هذا إضافة إلى أن هذه الكتلة حتى لو قامت لم يكن أمامها مفر - من الناحية العملية - من إما أن تنضم إلى الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي، وإما أن تنضم إلى الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة.
تخلو الوثيقة تماماً من أي إشارة إلى السياق الثقافي والآيديولوجي والسياسي الخاص بالدولة السعودية، كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي أفضت إلى قيام الدولة السعودية الأولى، وإنجاز الملك عبد العزيز وحدة سياسية مبهرة مكونة من معظم أقاليم الجزيرة العربية، وبنائه دولة مترامية الأطراف اسمها المملكة العربية السعودية. وهذان الأمران هما أبرز ما في ذلك السياق وفي صدارته. ومع أن السلفية والمذهب الحنبلي يشددان على طاعة أولى الأمر، إلا أنَّ معدي الوثيقة في تناول هذه المسألة اكتفوا بعبارة عامة غير محددة وضعيفة.
ثمة بند من بنود أهداف مرحلة التعليم يشذ عما ذكرنا من غياب تام للبعد الوطني في الوثيقة، وهو البند الذي قِيل فيه: «تستغل الأحداث الجارية والمناسبات الوطنية، كاليوم الوطني للمملكة العربية السعودية في تقوية الاعتزاز بالوطن».

هذا البند عند النظر إليه ضمن الإطار الكلي والتفصيلي في بنود الوثيقة، يبدو غير متسق معها. وربما وضعوه ذراً للرماد في العيون.
إذا كنا في المقال السابق ذكرنا أن السعودية - من حيث نمط السلطة والآيديولوجيا - دولة «تدخلية»، أي دولة ليست ليبرالية، فإنها في وثيقة سياسة التعليم التي أشرفت عليها جهة حكومية، وهي وزارة المعارف، لم تكن دولة «تدخلية» البتَّة. بأمارة أن الوثيقة كانت تخدم فكر الحركات الإسلامية الأممية، ولا تخدم سياستها وآيديولوجيتها في المدى الآني وفي المدى البعيد.
الدكتور أحمد العيسى برر ظهور الوثيقة بالكيفية الإسلامية الأصولية بتحديات سياسية داخلية وخارجية، ذكر منها «المد القومي الناصري في عنفوانه وزخمه» و«الأفكار الشيوعية التي كانت تكتسب أهمية لدى الشباب»، وعند قراءة الوثيقة لا نجد ما يشي بذلك حتى في حده الأدنى. فالشيوعية التي ذكر اسمها في بندين من بنود أهداف مرحلة التعليم الابتدائي، ذكرت عرضاً مع مترادفتي الاستعمار والصهيونية.
وهذا ما يؤكد وجهة نظري التي سبق أن قلتها، وهي أن الذين صاغوا الوثيقة لم يصوغوها بالكيفية التي صاغوها بها استجابة للتحدي القومي والتحدي الشيوعي، اللذين يواجهان السعودية في العقد الذي حدده، وهو عقد الستينات، وإنما فعلوا ذلك، لأنه هكذا هو مشروعهم التعليمي والتربوي الإسلامي.