جبريل العبيدي

«كرسي في الكلوب» طريقة مصرية قديمة، حيث كان الفانوس «الكلوب» وسيلة الإنارة الوحيدة في الأرياف، وكانت تستخدم لإفساد الاجتماعات والمناسبات الاجتماعية من قبل المعارضين لها، أو من تتعارض مصالحهم معها، أو من تغيظهم وتغضبهم النتائج التي ستسفر عنها تلك الاجتماعات، أو يعرفون مسبقاً أنها لا تسير في اتجاه مصالحهم، فيحرضون السفهاء لإفسادها.


وكثيراً ما استعمل البعض البلطجة لإفساد أي حدث سياسي، سواء كان حواراً أو مصالحة، مستفيداً من الغوغاء، وهي ظاهرة صنعها التعليم الفاشل والاقتصاد المتدني، والانحراف عن قيم المجتمع وعاداته، مما يؤكد أن السياسة والعدالة لا يمكن أن يلتقيا في مشهد متأزم مشحون بالكراهية والإقصاء، بل وحتى التكفير والتهم بالردة الذي تمارسه جماعات «الإسلام السياسي» بكثافة منقطعة النظير، وهي وسيلة المستبد الطامع في السلطة للاستئثار بها تحت منطق الوصاية على المجتمع، والحكم لمن غلب واحتكر الشرعية ليحكم من خلال مفهومه القاصر لها، ليقصي الآخرين ويتناسى قول الله ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس)) فلا ديمومة لاحتكار السلطة، ولهذا لا بدّ من التأسيس لثقافة التداول على السلطة Rotation of power، على أنه مبدأ ديمقراطي، ويجب أن يكون ضمن أبجديات التحول الديمقراطي، وأن تكون بداية جديدة في ليبيا الجديدة. 
وهذا يفسر ما حدث ويحدث في جلسات الحوار الليبي التي تنقلت بين بلدان شتى لم يكن «الكلوب» وسيلة الإنارة فيها، ومع هذا وجدت جماعات «الإسلام السياسي» الكرسي والكلوب لإفساد الاجتماعات، وتشتيت الحوار فيها، وإغراق هذه الاجتماعات من ثم في خلاف الجزئيات من دون الخروج بأي حالة توافق حقيقي يمكن التعويل عليها كمخرج من الانسداد السياسي ومستنقع الوحل الذي غرقت فيه الأطراف السياسية الليبية، مما يعتبر عملاً غوغائياً، وسابقة قد تدفع بالبلاد نحو مسلسل العنف والاغتيالات السياسية وتعرض السلم الاجتماعي للخطر، جراء الفوضى التي تؤدي إلى تأخير قيام الدولة، وتأكيداً لمن قيل يوماً «إن العرب لا يستحقون الديمقراطية» بعد أن تحولت البلاد إلى حالة استقطاب شديد، سعى فيها كل قطب لعزل الآخر، تارة باستخدام القانون وما عرف بالعزل السياسي قبل أن يتم إلغاؤه من قبل مجلس النواب، والسبب في الأصل هو التركيبة والتوزيع الخاطئ لمقاعد السلطة، التي أعطت عدداً يكاد يكون أكبر من نصف عدد المقاعد للأحزاب، في الوقت الذي لا يوجد في ليبيا حزب واحد يمكنه جمع ألف صوت انتخابي، من دون التعويل على طرق أخرى لا يقرها القانون! ناهيك عن أحزاب «الإسلام السياسي» التي ليس لها قاعدة شعبية، بل إن الشعب الليبي يكرهها، لأنها تريد أن تختطف إسلامه الوسطي، وتثقل كاهله بإملاءاتها وخزعبلاتها الدينية.
المشهد السياسي أصبح يعج بأحزاب تفتقر إلى أي قاعدة شعبية حقيقية، تمنحها حق تمثيل قرابة نصف عدد المقاعد في السلطة التشريعية (البرلمان) مما يجعلها تتقاسم الحقائب الوزارية والسلطة التنفيذية، في حين هي لا تمثل الشعب بأي شكل من الأشكال.
التغلغل الحزبي المبني على ضآلة في التمثيل الشعبي، سيشكل خطراً كبيراً في إدارة الدولة بدءاً من كتابة الدستور، وسيحوله من دستور وطني إلى دستوري حزبي للخاصة يجعلنا ضحايا لملهاة الدستور الفئوي، المكتوب بحبر جماعة لا تؤمن بالدولة المدنية ولا جغرافيا الوطن، بل تؤمن بالدولة العابرة للقارات التي لا تحدها حدود.
في ظل الفوضى السياسية في ليبيا، تلوّثَ المشهد بكثير من الأقزام والمراهقين السياسيين، ممن جلبتهم الصدفة، وتقاطع المصالح، وأجندات مختلفة داخلية وخارجية، ليصبحوا سياسيين في بلد منكوب، اقترب من الانهيار بعد أن سكنه الفشل لسبع سنوات عجاف، عبر حكومات متعاقبة أهدرت المليارات دون تحقيق أدنى درجة من الخدمات الصحية والتعليمية، لدرجة أن إحداها أهدرت 5 مليارات دينار في قرطاسية مكتبية، وأخرى أهدرت 11 مليون دينار على ملابس شخصية للوزراء، وهذا بشهادة تقارير ديوان المحاسبة والرقابة، الذي كان صادماً لحجم الإنفاق والإهدار في المال العام، فهل البلاد تتجه نحو الهاوية، أم ثمة من يدفعها نحو تلك الهاوية، بعنف بكرسي في الكلوب.