فـــؤاد مطـــر 

لدى الزعيم الديني - السياسي العراقي السيد مقتدى الصدر شمائل كثيرة لعل أهمها أنه يقرأ جيداً الشخصية العراقية. وهو في قراءته هذه ينسجم مع الباحث المخضرم في طبيعة هذه الشخصية الدكتور علي الوردي.

قرأ السيد مقتدى الصدر جيداً ما يدور في الخاطر العراقي من تساؤلات كثيرة حول الحرب التي خاضها الرئيس صدَّام حسين وصنوه في المكابرة الخميني، وهل كان من الضروري أن تدوم ثماني سنوات ولا تضع أوزارها إلاّ بعد ضحايا بمئات الألوف وخسائر بمئات الملايين، وانتهى إلى أنه لا بد من أن يرمّم العراق نفسه ويتخلص من تداعيات عملية الثأر الإيراني مِن الذي حاربه (العراق) يتولاها الذين خلفوا الخميني في القيادة الإيرانية. ونقول ذلك على أساس أن النظام الإيراني راح يتعامل مع العراق بأسلوب مخملي من الإخضاع، وبحيث باتت الإرادة السياسية العراقية حبيسة مزاج مغامرين في الثورة الإيرانية وغرضهم من ذلك فك أواصر الشخصية العراقية العروبية.
من الطبيعي أن يلقى إسقاط النظام الصدَّامي الارتياح الضمني في نفس السيد مقتدى، فالصدريون لهم في عنق النظام ذاك ثارات كثيرة، لكن هذا الارتياح لا يعني اعتبار وقوع العراق في القبضة البوشية إنجازاً كريماً، بل إنه في واقع الأمر ندبة في جبين الشخصية العراقية وإساءة إلى عروبة هذه الشخصية ومواقف رموز كثيرين سجَّلوا على مدى سنوات ملَكية وجمهورية مواقف تعكس روحية الشخصية العراقية التي يوجز تلخيص الدكتور الوردي طبيعتها بالقول: «إن العراقي ذو شخصيتيْن؛ فهو إذ يدعو إلى المُثل العليا أو المبادئ السامية مخلص في ما يقول جاد في ما يدَّعي، أما إذا بدر منه بعدئذ عكس ذلك فمردّه إلى ظهور نفْس أُخرى فيه. لا تدري ماذا قالت النفْس الأُولى وماذا فعلت». وفي ضوء هذه النظرة من جانبه تصرَّف السيد مقتدى بمفهوم الجانب الآخر مما في النفس، وبدأ يخوض غمار مواجهة الوجود الأميركي في العراق إنما بسلاح التعبئة السياسية والإيمانية بدل المنازلات السلاحية التي لا مردود منها سوى المزيد من قتْل نفوس حرَّم الله قتْلها. وبهذه المواجهة التي كان الكفن بعض الأحيان عند الضرورة والكلام المعبِّر عن عُمق الإحساس بحقيقة العراق كدولة عربية من معالمها، أنجز السيد مقتدى حالة من الرضا والطمأنينة مقرونة بالإيمان في نفوس الأكثرية في العراق ومن مختلف هوياتهم ومذهبياتهم. وعندما نضجت الحالة المشار إليها وحان جنْي ثمارها بدأ يكتب في الصفحة التالية من مشروعه، وهو تشجيع استعادة العروبة للعراق الذي هو أحد أبنائها البررة. وفي هذا الإطار كان تشجيعه الضمني لبداية محاولات الاقتراب خطوة خطوة من الأشقاء العرب بدءاً بالأقربين أوْلى بالتعاون، أي المملكة العربية السعودية التي عندما زارها السيد مقتدى يوم الأحد 30 يوليو (تموز) 2017، ولقي خير ترحيب من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان فإنه كان بهذه الزيارة يبلور «الأمثولة الصدرية» التي بدأت تكتمل في خاطره وهي كسْر التحريم الإيراني في مسألة الانفتاح العراقي على السعودية الذي بدأ مع مشاركة رئيس الجمهورية الدكتور فؤاد معصوم في القمة الإسلامية – الأميركية في الرياض يوم الأحد 21 مايو (أيار) 2017، وكانت مناسبة طيِّبة للتحادث مع الملك سلمان بن عبد العزيز في أمور كثيرة وتحت عنوان رئيسي لخصه بعبارة «لا بد للعراق من الاهتمام بدول الجوار ويحاول جاداً بناء علاقات جيدة مع هذه الدول»، ثم مع زيارة قام بها رئيس الحكومة حيدر العبادي، وزيارة قام بها رئيس البرلمان سليم الجبوري.
وعندما نقول إن زيارة السيد مقتدى والمحادثات التي أجراها مع ولي العهد، الأمير محمد، كانت بمثابة القول ما معناه لأهل العراق إن الذي مضى طويناه وسنبدأ الكتابة في صفحة العراق المتوافِق المتعاوِن مع أشقائه العرب فهذا ما بدا ملموساً. وتثبيتاً لكلامه هذا وبما يعطي سعيه صفة «الأمثولة الصدرية» التي هي برسم مرجعيات دينية تحتاج إلى الكثير من إعادة النظر في القول وفي الفعل وبالذات بعض السُّياد اللبنانيين، رأيناه يقول لصحيفة «الشرق الأوسط» عدد الجمعة 11 أغسطس (آب) 2017: «ناقشتُ مع الأمير محمد جميع الملفات ومنها ما يخص العراق ووصلْنا إلى رؤى متشابهة. كان الأمير محمد صريحاً جداً معنا كما كنا معه. هناك مشاريع لإحلال السلام ونبْذ الطائفية في المنطقة، وحضوري كشيعي إلى منطقة سُنية يخيف كثيراً من الأعداء، لذلك سوف تُستهدف السعودية على أثر هذه الزيارة. الذي يعنينا هو إنهاء النَّفَس الطائفي الذي يحاك مِن خلْف الحدود وهذا جداً مهم خصوصاً أن تطلعات السعودية جميلة وجيدة وإنني متفائل بأنه ستكون هناك مشاريع جديدة وتعاوُن مع العراق وفي عموم المنطقة. نحن نحترم الشعب السعودي برمته لا نفرِّق بين أحد ونريد تطبيب العلاقة ما بين الإخوة خلال هذه الفترة. وفي السنوات العشر الماضية كان هناك شيء من الحساسية تجب إزالتها والتخفيف من حدة التوتر شيئاً فشيئاً، ومن الضروري إعادة العراق إلى الحاضنة العربية...».

ما يقوله عارفو السيد مقتدى أنه من الذين يوجزون في الكلام عن رؤاهم. وفي تقديري أن ما قاله في مجالس تياره بعد زيارته المشار إليها، والتي أتبعها بزيارة دولة الإمارات، كان نوعاً من التنوير بعوائد الانفتاح على الأشقاء العرب وتعبئة الجمهور العراقي، الشيعة والسنة، في اتجاه نفض غبار الشحن المذهبي الإيراني عن العباءة العراقية من دون أن يستهدف النفْض هذا عداوة، ذلك أن فترة التحريم التي تعمّد النظام الإيراني تكبيل الإرادة العراقية بها أساءت وأضرت وكانت ضد الشخصية العراقية، والصفحات المضيئة من التراث العراقي. ومن هنا فإنه عندما خاض التيار الصدري الانتخابات وحقق فوزاً ملحوظاً من الطبيعي أن يصدم أُولي التحريم ويثلج صدور الذين يعلِّقون الآمال على عوائد «الأمثولة الصدرية» العراقية التي سبقتْها في لبنان وبصيغة مختلفة أمثولة بالروحية نفسها هي تلك التي ارتبطت بشخص السيد موسى الصدر.
ويبقى التمني أن يتأمل بقية السُّياد في لبنان وحيث وجدوا في الأمثولتيْن وبذلك تصطلح أمور العباد ويتسارع تعمير البلاد... وهذا ما ينتظره العراقيون من عهد «الأمثولة الصدرية».