سمير عطا الله 

تميز القرن الماضي بعلامات الخراب وانهيار الدولة. فبعد انحسار الاستعمار وقيام الحكم الوطني خيّل لجميع الناس أن الأمة أصبحت على عتبة الجنة. لكن الحلم كان قصيراً والكابوس كان بلا نهاية. لقد ترك الاستعمار نظاماً ديمقراطياً على الأقل من حيث الشكل والمبدأ.

أي الاحتكام إلى الشعب من خلال التمثيل البرلماني كما هو الأمر في بلاد الاستعمار نفسه. لكن سرعان ما أطلّ الضباط من ثكناتهم، وفتحوا أبوابها أمام الدبابات، وأطلقوها في أثر الحياة المدنية. أطلقت على تلك الانقلابات شتى ألقاب التمجيد، وانتقل النقاش بين الناس من المجالس والمدارس إلى القصف الجوي والفرقة الثامنة واللواء العاشر. امتدت العدوى العسكرية إلى معظم الأمكنة بعدما بدأها العقيد حسني الزعيم في دمشق عام 1949. وعندما جاء دور مصر، أدرك مفكرو العرب أن الحياة المدنية في المنطقة سوف تنتقل من الذبول إلى الأفول. وصار يخيّل لكل ملازم أنه عبد الناصر بلده. وتمدد العنف العسكري بديلاً للقانون وتحوّل التناوب على السلطة إلى تناوب الانقلابيين على البلاغ رقم واحد.
السودان كان - إلى فترة غير طويلة - النموذج الآخر. ففي المرة الأولى نزل الشعب إلى شوارع الخرطوم لكي يعيد بصدره الدبابات إلى مرائبها. وفي المرة الثانية سجل المشير سوار الذهب أول وآخر نبل عربي عندما أعلن تخليه عن السلطة من القصر الرئاسي، مسلّماً الحكم إلى رئيس الوزراء المنتخب الصادق المهدي، ورئيس البرلمان الميرغني.
رمى سوار الذهب العمل السياسي من النافذة مرة واحدة وإلى الأبد. وانصرف بكل قواه وتقواه إلى العمل الدعوي. وبقي خارج المعارضة والموالاة على السواء. وإذا كان من أمرٍ في مساعدة دولته أو البحث عن هنائها، فقد تطوع إلى ذلك دوماً من دون الانخراط في أي جبهة أو حزب.
قبل أن يترك سوار الذهب الحكم أعطى السودان أفضل ما لديه، أي الدستور الوطني الذي أشرف على استفتائه في أنزه عملية اقتراعية ربما في تاريخ العرب. وتكرس لكل ما هو خير ومصالحة داخل السودان وخارجها. وليس هناك من يعرف على وجه الضبط حجم الأعمال الخيرية التي تولى رعايتها، ومنها بناء 800 مسجد و160 مدرسة لتحفيظ القرآن، وإنشاء مئات الملاجئ ودور الإيواء والمستشفيات المدنية للاجئين.
لا يمكن أن تعرف مدى ذهبية هذا الرجل وتواضعه وسعة قلبه إلا إذا عرفته عن قرب. عندها تدرك لماذا كان أرفع من السلطة وأغنى من الحكم، وطيباً مثل السودان.
إلى اللقاء.