سمير عطا الله

 AA الصحافيون الذين عملوا في «دار الصيّاد» أوائل السبعينات كانوا يشاهدون في المطبعة شاباً منكباً على تصحيح «البروفات» قبل إرسالها إلى الطبع. كان مؤدباً يرد التحية إذا ألقيت عليه ولا يبادر بتحية من عنده خجلاً من الذين أعلى منه مرتبة. فـ«المصحح» في الصحافة اللبنانية هي أكثر المراتب تواضعاً. وقد تؤدي بصاحبها بعد التجربة إلى أن يصبح محرراً، وربما رئيس تحرير، وقد يبقى الرجل مكانه طوال العمر. وقد يخرج من الصحافة برمتها بحثاً عن عملٍ آخر.

صاحبنا كان يدرس في الوقت نفسه علوم المحاسبة في الجامعة العربية. والتصحيح هو العمل الإضافي الوحيد الذي عثر عليه بصفة دائمة. قبل ذلك كان يعثر على أعمالٍ بسيطة في قطف التفاح والبرتقال في بساتين الساحل وحدائق الجبل، لكن فقط في مواسمها، أي زهاء أربعة أسابيع في الصيف وأربعة أخرى في الشتاء.
كان المصحح الشاب كتوماً رغم كونه بشوشاً أيضاً. ولم يكن أحدٌ من أصحاب الدار، أو من صحافييها، يعرف ما يدور في خلده من أحلام. أو نوعية تلك الأحلام. وذات يوم سوف ينظر الصحافيون إلى صوره مع زعماء العالم أجمع ويتساءلون: أليس هذا المصحح المؤدب؟


ذهب رفيق الحريري للعمل في الرياض مدرساً ابتدائياً. لكن هذا أيضاً لم يكن طموحه. ما لبث أن جمع قليلاً من المال اشترى به شركة معمارية صغيرة. لكنها أفلست سريعاً. ثم عاد فجمع مبلغاً آخر واشترى شركة صغيرة لن تفلس هذه المرة، بل سوف تتحول إلى إحدى أكبر شركات البناء في العالم. وكانت كلما كبرت ثروة الرجل الذي عمل في قطف التفاح لكي يكمل دراسته، وزّع على الطلاب المحتاجين منحاً دراسية. كان لبنان غارقاً في الحرب والفقر، وكان المحتاجون كثراً ومن جميع الطوائف والأحزاب والمناطق. ولم يستثنِ من مساعداته أحداً، وعندما اغتيل لم يكن أحد يعرف عدد المنح التي وزعتها مؤسسته. قيل إنها ثلاثون ألفاً، وقيل خمسة وثلاثون ألفاً، وقيل أكثر. ووزع الحريري بصفة شخصية المال على الأديرة والمدارس المسيحية والمساجد والمبرات والأفراد. وبنى المستشفيات وأقام جامعة تحمل اسمه. ولو استطاع لما ترك أحداً دون تعليم، وفي جملة المشروعات الكبرى التي أقامها كانت مدارس «نجد» في الرياض التي يصعب الحصول على مقعدٍ لطالب فيها إلا بالواسطة. كان هاجس حياته التعليم والهاجس الآخر أن يكدس أعمال الخير تكريماً لذكرى والديه اللذين عانيا في تنشئته مع شقيقته بهية وشقيقه شفيق.
مثل رياض الصلح ورشيد كرامي اغتيل رفيق الحريري وهو في عزّ عطائه. مثلهما كان ثمة خلافٌ سياسي حوله. لكن لا أحد مثله في لبنان كان حوله مثل هذا الإجماع كرجل خير.