علي العميم 

القضايا السياسية الكلية التي رأى الدكتور أحمد العيسى أن الوثيقة أقحمت التعليم فيها، هي: الدعوة إلى التضامن الإسلامي، والدعوة إلى الإسلام، والجهاد في سبيل الله، والرقابة على الكتب الصادرة في السعودية وفي خارجها.


القضية الأولى، لعلنا عالجناها في المقال قبل السابق وفي المقال السابق بما يكفي. وأما القضايا الأخرى، فسنقول رأينا فيها الآن، ونستكمل هذا الرأي في المقال القادم، وهذا الرأي سيؤكد مرة أخرى أن قراءته للوثيقة كانت قراءة خاطئة، وأن اختلافه أو ملحوظاته على بنودها التي تعرض لها، كان شكلياً وهامشياً.
في القضية الثانية، قضية الدعوة إلى الإسلام هو أورد مطلع البند الذي يقول: «الدعوة إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها» ورأى أن هذه المهمة هي من اختصاص مؤسسة حكومية، هي وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد!
وسأورد نص البند كاملاً – والذي هو من ضمن الأهداف الإسلامية التي وردت ضمن الأهداف العامة – ونصه كاملاً هو ما يلي: «الدعوة إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بالحكمة والموعظة الحسنة من واجبات الدولة والأفراد. وذلك هداية للعالمين وإخراجاً لهم من الظلمات إلى النور وارتفاعاً بالبشر في مجال العقيدة إلى مستوى الفكر الإسلامي».
أقول تعليقاً على ما قاله بصدد هذه القضية: أن الدعوة إلى الإسلام قضية دينية محضة وليست قضية سياسية كلية، كما هي حال قضية الدعوة إلى التضامن الإسلامي. وأنه في وقت كتابة الوثيقة لم تكن في السعودية مؤسسة دينية منوط بها لا مهمة الدعوة إلى الإسلام، ولا مهمة الوعظ والإرشاد الديني للمسلمين في الداخل والخارج.
إن نشاط دعوة غير المسلمين إلى اعتناق الإسلام في القرون القديمة وفي القرون الحديثة كان - على عكس التبشير بالمسيحية – نشاطاَ ضئيلاً ومتقطعاً وعفوياً ومرتجلاً وفردياً، ولم يتحول إلى نشاط مؤسسي منظم محدود إلا منذ عقد قريب، وهو عقد الثمانينات، وفي قارة بعينها، هي قارة، أفريقيا، على يد الداعية والطبيب الكويتي عبد الرحمن السميط الذي احتذى في نشاطه المؤسسي المنظم بعض طرق المبشرين المسيحيين في حفز غير المسيحيين وتشجيعهم على اعتناق المسيحية، كالطبابة والتعليم وما سوى ذلك من طرق، ونقلها إلى مجال الدعوة إلى الإسلام.
أمام هذه الحقيقة، فإن «الدعوة إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها» في ذلك البند كانت مجرد كليشيه أو قول مردد غير متبوع بعمل ومسنود بفعل، بحيث يستأهل الوقوف عنده لتحديد جهة الاختصاص فيه. ما يستأهل الوقوف عنده هو آخر جملة فيه والتي تقول: «ارتفاعاً بالبشر في مجال العقيدة إلى مستوى الفكر الإسلامي».
هذه الجملة تستأهل الوقوف عندها، لأن استخدام تعبير الفكر الإسلامي في سياق دعوة غير المسلمين إلى اعتناق الإسلام، يبدو غريباً ومربكاً. فالفكر الإسلامي يعني مجموع العلوم الدينية والقواعد والأسس التي بنيت عليها هذه العلوم وتاريخها. وإسهامات علماء هذه العلوم فيها. ويعني علم الكلام الإسلامي. ويدخل ضمن الفكر الإسلامي فكر الفلاسفة المسلمين في بعض قضاياه وفكر المتصوفة المسلمين بما فيه المغالي والشاطح فيه. ونقد الفلاسفة للمتكلمين، ونقد المتكلمين للفلاسفة، والجدل مع المسيحية، والجدل بين المذاهب الإسلامية، والردود على الزنادقة.
ويعني الفكر الاسلامي، الفكر الإسلامي في القرنين الأخيرين، سواء أكان هذا الفكر محافظاً تقليدياً أم إصلاحياً تحديثياً أم أصولياً متطرفاً.
معدو الوثيقة لا يقصدون بذلك التعبير المعنى الذي عددنا جوانبه في العصور القديمة وفي العصر الحديث، لأن عدداً من هذه الجوانب يتراوح موقفهم منها ما بين الرفض لها والتحفظ عليها، وإنما يقصدون به الإسلام والفكر الإسلامي بحسب تأويلهم الأصولي المحدث والمتأخر لهما، وهو التأويل المتوفر في كتابات أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي وسيد قطب وكتابات من يدور في فلك تنظيرهم الديني من الإسلامين.
التعبير المناسب في تلك الجملة هو دين الإسلام أو الدين الاسلامي أو العقيدة الإسلامية أو الإسلام، ومع هذا استعملوا تعبيراً في غير مكانه، وهو تعبير الفكر الإسلامي. ولقد استعملوا هذا التعبير غير المناسب والذي لم يكن في مكانه الصحيح لسبب. 
هذا السبب هو أنهم لو استعملوا تعبير دين الإسلام أو الدين الإسلامي أو العقيدة الإسلامية أو الاسلام، فإنهم بذلك قصروا ارتقاء الإنسان وتطوره وعلوه وسموه باعتناقه الإسلام على مضمار الديانات، ولم يتعده إلى ارتقائه وتطوره وعلوه وسموّه على الفكر الغربي. لأن هذا الفكر ليس ديناً. وهذا ما لا يريدونه. فالفكر الغربي هو بغيتهم وهدفهم الأهم من هذه المفاضلة. لذلك استعملوا تعبير الفكر الإسلامي مدموجاً بالدين الإسلامي، ليكون الفكر الغربي مشمولاً بتلك المفاضلة الاستعلائية التي يشير إليها لفظ «ارتقاء» الذي استعملوه في جملتهم تلك، والذي يعكس تأثرهم بنظرية التطور في فلسفة التاريخ الحديث الحديثة، لكن على نحو محرّف ومضاد لها.
لهذا البند الذي هو من ضمن الأهداف الإسلامية في وثيقة سياسة التعليم السعودي، صلة ووشيجة ببند آخر هو من ضمن الأهداف المعرفية في هذه الوثيقة.
يقول هذا البند «تزويد الطلاب بلغة أخرى من اللغات الحية – على الأقل – بجانب لغتهم الأصلية، للتزود من العلوم والمعارف والفنون والابتكارات النافعة، والعمل على نقل علومنا ومعارفنا إلى المجتمعات الأخرى إسهاماً في نشر الإسلام وخدمة الإنسانية».
ربما قد يسهم نقل علومنا ومعارفنا إلى اللغات الحية وغير الحية في نشر الإسلام – أو على الأقل – الاعجاب بالإسلام وتثمين ثقافته وحضارته. لكن من غير المفهوم أن يسهم نقلها في خدمة الإنسانية!
فحتى العلوم العملية في الحضارة العربية والإسلامية، لا يمكن لها أن تسهم في خدمة الإنسانية في الزمن الحديث، لأنها مجرد تاريخ تجاوزها العلم الحديث بمراحل بعيدة. وقراءتها هي مفيدة – فقط – للمهتمين والمختصين بتاريخ العلم. إن تعبير خدمة الإنسانية الذي استعمل في هذه السياق وما المراد به، لا يفهم إلا حين نرجع لأطروحة أبي الحسن الندوي المعاندة والمكابرة في كتابه: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) ليستوعب معناه غير المتفق عليه.
إن الإسلاميين الهنود والعرب لم ينشغلوا بترجمة الأعمال الدينية الإسلامية الكلاسيكية، ولا الأعمال الأدبية والتاريخية والفلسفية الكلاسيكية ولا بأمهات الكتب العربية والإسلامية، ولا بأعمال المثقفين الإسلاميين التحدثيين إلى لغات أخرى، وإنما انشغلوا قبل كتابة الوثيقة وفي أثناء كتابتها وبعد كتابتها بترجمة أعمالهم هم، وترجمة بعض الكتب الدينية المحضة. وهذا مما يؤكد أن ما عنوه باستعمال تعبير الفكر الإسلامي في البند الأول هو فكرهم هم، وأن ما عنوه عملياً بتعبير «علومنا ومعارفنا» في البند الثاني هو علومهم ومعارفهم هم.
إن ما فات الدكتور أحمد العيسى أن يلحظه أن الوثيقة في عديد من بنودها كانت تدعو طلاباً مسلمين – وهم الطلبة السعوديون – إلى الإسلام مجدداً من مرحلة الحضانة إلى مرحلة الابتدائي إلى مرحلة المتوسطة إلى مرحلة الثانوية!
فالمشكلة والمعضلة كانت هنا وليس في تحديد الجهة الحكومية المنوط بها الدعوة إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. إن الدعوة إلى الإسلام من جديد كانت رسالة الإسلام الحركي التي أوهمت بعض المسلمين في شتى الأقطار الإسلامية، أنهم يعيشون عصر ردة عن الإسلام. وهذه الردة – حسب دعواهم – سببها سقوط الدولة العثمانية، وجاهلية حديثة مصدرها الثقافة الغربية، وتخثر في فكر علماء المسلمين التقليديين في فهم فحوى الإسلام في ماضيه وفي حاضره. وحكم بغير ما أنزل الله.
في القضية الثالثة، قضية الجهاد في سبيل الله يقول الدكتور أحمد العيسى: أشارت الوثيقة «إلى الجهاد في سبيل الله باعتباره فريضة محكمة وسنة متبعة، وضرورة قائمة»، بل أشارت الوثيقة كذلك إلى موضوع الجهاد في موضعين اثنين آخرين، ففي غاية التعليم وأهدافه العامة أشارت الوثيقة إلى «إيقاظ روح الجهاد الإسلامي لمقاومة أعدائنا، واسترداد حقوقنا، واستعادة أمجادنا، والقيام بواجب رسالة الإسلام»، وفي أهداف المرحلة الثانوية أشارت الوثيقة إلى ضرورة «إعداد الطلاب للجهاد في سبيل الله روحياً وبدنياً».
اختلافه مع هذه الإشارات هو «أن لمؤسسات الدولة الأخرى مسؤولياتها مثل القطاع العسكري الذي تقع على عاتقه مسؤولية الدفاع عن البلاد، وعن الاستعداد للجهاد في سبيل الله».
للدقة أن البند الذي يقول: «إن الجهاد في سبيل الله فريضة محكمة...» والذي لم يورد خاتمته التي تقول: «وهو ماضي إلى يوم القيامة»، وأن البند الآخر الذي أورد نصه كاملاً هما تحديداً ضمن الأهداف الإسلامية، الأول رقمه اثنا عشر، والآخر رقمه تسعة عشر. وربما هو سها عن ذكر بند من بنود مرحلة التعليم الإبتدائي يقول: «يجب أن تكون المواقف التعليمية المختلفة مجالاً لإلهاب مشاعر التلاميذ بإعدادهم للذود عن الوطن والتضحية في سبيل الله ثم في سبيله عن طريق الأناشيد والتمثيل والقصص والنشاط الرياضي». 
اختلاف الدكتور أحمد العيسى في هذه القضية، كما اختلافه في القضية الأولى وفي القضية الثانية، قائم على دعوى الاختصاص.