حامد الحمود

​رمضان شهر تعبد وصلاة في الكويت والمدن الإسلامية، لكن لكل مدينة وبلد خصوصيتهما. وحتى في البلد أو المدينة الواحدة حدثت تغيرات في الإقبال على التعبد والعبادة، صاحبها تغيير في السلوك الاجتماعي. فلو تابعنا التغيرات في «السلوك الرمضاني» للكويتيين منذ ان كانت الكويت عبارة عن مدينة صغيرة، يعتمد أهلها على التجارة وصيد السمك والغوص على اللؤلؤ في عام 1950، إلى مدينة كبيرة يزيد سكانها على 4 ملايين نسمة عام 2018، لأصابتنا الدهشة.

فحتى أوزان وأشكال الناس تغيرت، وبعد أن كان الناس لا يتمكنون من تحصيل السعرات الحرارية الضرورية للإعاشة إلا بعد جهد كبير، أصبحوا يعانون من تراكم هذه السعرات الحرارية على شكل شحوم، محولة قوام الناس من الشكل العمودي إلى البيضاوي. وحتى أصبح الإعلان عن عمليات جراحية للتكميم يأتي من عيادات طبية تزيد من إعلاناتها على الصفحات الأولى مصحوبة بتهانٍ بشهر رمضان المبارك. والذي يرجع أساسا إلى أن تكلفة الغذاء في الكويت تشكل نسبة صغيرة نسبياً من دخل الفرد، مما أدى إلى إفراط في تناوله، خاصة بعد أن أصبحت المتعة الأهم المسموح بها.

​وهناك ميزات وسلوكيات خاصة في الممارسات الرمضانية في الكويت، ومن أهمها الإقبال على الصلاة في المساجد والتواصل الاجتماعي وعدم الالتزام بالعمل. هذا ومع أنه ليس لدي إحصائيات عن نسبة المصلين في المساجد لأداء صلوات التراويح والقيام في مدن وبلدان أخرى، إلا اني أقدر أن الكويتيين والمقيمين فيها هم من أعلى النسب العالية إن لم تكن الأعلى. أما التواصل الاجتماعي في الكويت، فيبدو فريدا، فهناك اندفاع نحو الزيارات المتبادلة للديوانيات. فأصبحنا نسمع من يقول انه تمكن من زيارة 200 ديوانية خلال الأيام العشرة الأولى من شهر رمضان. وعادة ما يقتصر التواصل على ترديد عبارة «مبارك عليكم الشهر»، والجلوس في الديوانية مدة لا تزيد على خمس دقائق. وكثيرا ما يتم ذلك في جو من عدم الرضا، او في التبرير بكون هؤلاء «المتواصلون» مع أكثر من 200 ديوانية مضطرين لأن الآخرين يزورونهم في ديوانياتهم. فهو تواصل من باب التقدير المتبادل يتميز بعدم التواصل.

​أما العمل في رمضان في الكويت، فعادة ما يتدهور، فحتى غير المسلمين من العمال والفنيين يشعرون بأنهم تحت رقابة شديدة، وليس لهم الحق بشرب الماء أو الشاي والقهوة لتجنب جرح مشاعر زملائهم المسلمين، أو خوفا من ملاحقة الشرطة. فالجو الرمضاني الذي نستمتع نحن فيه، يكون بالنسبة إليهم جوا مثيرا للخوف. لكن لنراجع أنفسنا والتاريخ قليلا، ولنطرح التساؤل: كم من هذا السلوك الرمضاني هو من الدين نفسه؟ وكم هو مصطنع أو ناتج من كوننا نعيش في مجتمع تشكلت سلوكيات أفراده من تداخل الدين مع قيم الاقتصاد الريعي، الذي يوفر دخلا شهريا معقولا للفرد من دون محاسبته على إنتاجيته؟ وللتوضيح، لا بد من المقارنة مع مجتمعات إسلامية أخرى، ولعل تركيا مثال مناسب للمقارنة.

هذا ومع أن تركيا دولة غير نفطية، فإن دخلها القومي يزيد على 900 مليار دولار، بينما يصل الدخل القومي لإيران حوالي 550 مليارا. هذا ويصل عدد سكان إيران إلى 82 مليون نسمة، بينما يقل عدد سكان تركيا قليلا عن 80 مليونا. أما الكويت، فدخلها القومي يقل عن 120 مليار دولار. وإن كان ليست لدي معلومات كافية عن مظاهر الصيام في رمضان في ايران، إلا أن تركيا وهي دولة علمانية يحكمها حزب إسلامي، فرمضان وصيامه يبقيان موضوعا شخصيا لا تتدخل الدولة في فرض أجوائهما على المواطنين. فساعات الدوام لا تتغير، وتبقى المطاعم والمقاهي مفتوحة في النهار. وفي لقاءات مع طلاب أتراك نشرتها صحيفة مصرية صادرة بالإنكليزية (المصري المستقل) في أغسطس 2011، قدرت الصحيفة أن طلاب الجامعات الذين يصومون لا تزيد نسبتهم على %20 من إجمالي عدد الطلاب.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يطرح الكاتب التركي مصطفى أيكول عدة تساؤلات حول رمضان والحداثة في مقال نشره في النيويورك تايمز بتاريخ مايو 2018 بعنوان «التوفيق بين الإيمان والحداثة في رمضان». فيثير في مقاله موضوع صيام المسلمين في شمال أوروبا، حيث تشرق الشمس لمدة تزيد على عشرين ساعة. لكن الأهم من ذلك أن على المسلمين أن يكونوا أكثر جرأة في طرح أمور تتعلق بإنتاجية الفرد خلال شهر رمضان. فهل التراويح والقيام لهما أولوية على العمل؟ كيف يبرر المسلمون عدم انضباطهم في العمل خلال شهر رمضان؟ وأحيانا أتساءل: ماذا كان سيحل على اقتصاد دول مثل الصين أو اليابان او أوروبا لو أنهم أصبحوا مسلمين، ومارسوا الصيام والصلاة كما يمارسان في الكويت؟

 ولنرجع إلى مقارنتنا بين تركيا والكويت، أود أن أتساءل: أيهما أقرب إلى روح الإسلام وأغراضه أهالي اسطنبول أم الكويت؟ ولا أرى أن هناك جوابا بسيطا لهذا التساؤل. فالحقيقة أن كلا منهما وجد الإطار الإسلامي لأن يمارس الدين بطريقة لا تؤثر في تحصيل قوتهم أو دخلهم. وفي الكويت، يسمح وضعنا الاقتصادي أن نمارسه بأن نستغرق في الصلوات، وأن نبالغ في الموائد الرمضانية، وأن نتأخر على الدوامات. فكيفية كسب الرزق تحدد الى حد كبير سلوكياتنا الرمضانية.

إن موضوع الدين والمجتمع ومتغيراته، موضوع يحتاج الى أن نخاطب فيه عقولنا بجرأة وصراحة، كما يقول أيكول في مقاله «إنه لمن السهل أن نقول ان الله قد أعطانا جميع الأجوبة، لكن من الحكمة كذلك أن نقول ان الله أعطانا العقل لنفكر به، ومن ضمن ذلك أن نجتهد في تفسير كلام الله وفقا لمتغيرات الزمان».