حازم الأمين

ثمة صفقة أبرمت بعيداً من أنظارنا، نحن شعب الممانعة وأهلها وجمهورها. صفقة أبرمت في جنوب سورية، أطرافها تل أبيب وموسكو... وطهران، وقضت بطمأنة إسرائيل بأن تحرير القدس لن يبدأ من هناك، وأن «المقاومة» التي توجه «حزب الله» للقتال في سورية إلى جانب نظامها، خوفاً عليها، مستعدة للانسحاب من خطوط القتال مع إسرائيل، لقاء حفظ رأسها.

تفاصيل الصفقة لم تصلنا بعد. موسكو وتل أبيب تحرصان على الصمت، وطهران تقول أن لا قواعد لها في جنوب سورية، ولا خبراء أيضاً. نحن وحدنا، شعب المقاومة وأهلها وذخيرتها نجهل ما جرى. الجبهة هناك مقفلة على مداركنا. علينا أن نستقبل جثث أبنائنا الآتية من تلك القواعد غير المرئية من دون أن نسأل عن تفاصيل اللحظات الأخيرة من حياتهم. ذاك أن لا قواعد عسكرية للمقاومة هناك بحسب طهران، وأبناؤنا قتلوا «أثناء تأديتهم واجبهم الجهادي».

الجبهة أُقفلت في ما يبدو، والغارات الإسرائيلية على القواعد والمطارات، التي «لا وجود إيرانياً فيها»، آتت أُكلها. الطريق إلى القدس شهدت تحويلاً جديداً، ويبدو أننا لا نستحق أن نُواجَه بحقيقة ما جرى. هذه حرب تنطوي على مقدار هائلٍ من الخبث. لنراقب الوجوه. وجه بنيامين نتانياهو ووجه فلاديمير بوتين ووجه قاسم سليماني. الصمت حيال ما حصل مصلحة الجميع، حتى لو انطوى على قدرٍ من الاستخفاف بعقولنا، نحن شعب المقاومة وأهلها وذخيرتها.

علينا أن ننتظر الخطاب المقبل لنلتقط مؤشراتنا الشعورية حيال مشهد على هذا القدر من الغموض. فنحن ما زلنا نجهل ما إذا كان قرار الانسحاب يشمل كل سورية أم جنوبها فقط. وماذا عن الوجود الروسي؟ ماذا يعني لنا هذا الوجود في ظل هذا التنسيق الهائل مع تل أبيب؟ كيف سنُدخل هذه الحقيقة إلى متن خطاب تحرير القدس؟ الأسئلة عالقة في حناجرنا. ثمة جواب واحد يتم التحضير له في ما يبدو، ويتمثل في أن «المهمة أنجزت في سورية» وعادت المقاومة إلى قواعدها. لكن، ماذا لو حصل الانسحاب من الحدود مع إسرائيل إلى الحدود مع العراق مثلاً؟ كيف سيتدبر «خطاب الممانعة» أمره حيال هذه المهمة المكشوفة في وظيفتها المذهبية؟ عليكم إخطارنا أيها القادة بما ترغبون لنا فيه، لا سيما أن تعديلاً جوهرياً أصاب السياق، وأصاب الطريق إلى القدس. فالوجهة هذه المرة بغداد والطريق منها إلى فلسطين طويلة جداً، وخطاب النصر يحتاج خيالاً أخصب حتى ينعقد.

ثم إن روسيا، شريكنا الأكبر في الحرب السورية، مُربِكة فعلاً لنا، فعلاقة الحب والانسجام التي تجمع «أبو علي بوتين» وفق ما نخاطبه، بـ «أبو يائير نتانياهو» وفق ما يخاطبه نديمه الروسي، لا يوجد تفسير لصمتنا حولها ولقبولنا بها.

القول مثلاً أن السياسة تقضي بفتح قنوات موازية لقنوات الحرب صحيح، لكن ما يجري يتجاوز ذلك. «المقاومة» توجهت إلى سورية لتحرير فلسطين، لتجد نفسها مقاتلة تحت عباءة الروس الذين يتولون بدورهم تصريف مصالح تل أبيب وفتح قنوات جوية لغاراتها على قواعد «المقاومة»! وأن يُصدر الجيش الروسي بيانات في أعقاب غارات الكيان الصهيوني وحلفائه الإمبرياليين على سورية، يقول فيها أنه تم إخطاره بمواعيد الغارات، فهذا ما يُسبب لنا اختناقاً لا نقوى على كتمانه.

في جنوب سورية أنجزت صفقة كبرى. الأيام المقبلة ستكشف الكثير عنها. قد لا تكون إيران خاسراً كبيراً فيها، ذاك أن حساب الربح والخسارة في ميزان طهران يختلف تماماً عما نعتقده. شراكات في مشاريع إعادة إعمار سورية قد تشكل تعويضاً، وحصص للجماعة المذهبية في مستقبل سورية أيضاً يشكل تعويضاً موازياً. أما تحرير فلسطين، فقد صارت طريقه أطول ببعض آلافٍ من الكيلومترات الإضافية. سنستأنفه من بغداد، مع كل ما يُرافق هذه المعاودة من حروب أهلية ومن دماء تُراق على الطريق إلى القدس.