خالد القشطيني

 كنت أتحدث عن مقاهي المثقفين في بغداد، «مقهى ياسين» في الأعظمية و«مقهى الزهاوي» في شارع الزهاوي و«المقهى البرازيلي» في شارع الرشيد و«شايخانة الجرذي المشنوق» على ضفاف دجلة. سمع نتفاً من هذه «الهذرفة» أحد الزملاء من الصحافيين السوريين المخضرمين فقال لي: يا خالد تذكرني حكاياتك هذه بحكاية «مقهى الهافانا» في دمشق.

دأب أصحاب القلم والفكر السياسي ونظم الشعر في سوريا على ارتياد «مقهى هافانا»، كان منهم ميشيل عفلق وزكي الأرسوذي وعبد السلام العجيلي وصلاح الدين البيطار، ومن الشعراء كان نزار قباني وبدوي الجبل، وغيرهم الكثير ممن لازموا مقاعد هذا المقهى في أيام الخير من تلك الأيام التي اندثرت ذكرياتها وفاتت.
كان أصحاب القلم من مفاليس المدينة. قال: كنا نقصد هذا المقهى في شارع المتنبي. ونشرب الشاي بنصف ليرة. ونقضي النهار كله في «الهذرفة». وكان المعتاد للساقي أن يعطي زبائنه الخيار بين شاي كبير لوحده، أو شاي صغير مع نوكة نأكلها مع الشاي. بيد أن بعض النبهاء من أهل القلم والفكر السياسي وعلم الاقتصاد توصلوا إلى فكرة أروع، وهي الاحتفاظ بالنوكة إلى اليوم التالي، ثم استبدال قدح الشاي بها دون عوض! فأصبح الواحد منهم يشرب الشاي ويجلس في المقهى يومين بسعر يوم واحد، أي بنصف الليرة نفسه. هذا طبعاً لم يخطر في بالنا في بغداد. وأراه يعود إلى اللوذعية التجارية لأهل الشام، التي كان العراقيون يفتقرون إليها.
جاءت أيام وفاتت أيام وزهق صاحب «مقهى هافانا» من صحبة المثقفين ورؤية صلعاتهم البهية يوماً تلو يوم، فباع المقهى إلى صاحب أعمال لا مكان في قلبه للفكر والأدب ونظم الشعر. فقلب المقهى رأساً على عقب، وحوَّله إلى عدد من الدكاكين والمتاجر.
غير أن هذه الخطوة الإعمارية التنموية لم تدم طويلاً. شاءت الأقدار أن يمر حافظ الأسد من قدام المكان، فتذكر أيامه وما آل إليه فيما مضى. ربما كان واحداً من رواده. وشق ذلك على الرئيس السوري. ما إن وصل إلى مكتبه حتى استدعى المسؤولين في وزارة الثقافة، وأمرهم بإعادة المقهى إلى سابق عهده.
سمعنا وأطعنا، قالوا له. نادوا على المالك الجديد ودفعوا له ثمن البيع وأدخلت وزارة الثقافة المبنى ضمن أصولها ومرافقها الثقافية. وأعيدت اليافطة فوق المبنى: «مقهى هافانا» ولكن الزبائن لم يعودوا. من أين لهم أن يعودوا؟ من مات منهم قد مات وفات، ومن بقي منهم تشرد في أرض الله الواسعة. راح يضرب الآفاق في باريس ولندن وروما، وفي الإمارات والكويت. لا أدري ما حل الآن في ذلك المكان تحت وقع القصف والإرهاب. كانت أياماً أتت ومضت. 
مضت وفاتت مع حكايات العفاريت والسلاطين والسندباد.