عزت صافي

مع انتهاء الانتخابات النيابية اللبنانية التي أجريت في 6 أيار (مايو) الفائت أعلن رئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون أن عهده بدأ في ذلك اليوم. أي أن فترة السنة ونصف السنة التي مضت من ولايته التي بدأت في 31/10/2016 غير محسوبة عليه، وهذا يعني أن مجلس النواب الجديد هو «مجلسه» الذي يعترف به، وقد أجريت انتخاباته على مسؤوليته مع الحكومة التي أشرفت على الانتخاب.


لكن فاتحة العهد العوني جاءت مخيّبة للآمال بمقاييس الشفافية والإصلاح. فقد انكشفت «صفقة» منح الجنسية اللبنانية لثلاثمئة شخص من جنسيات عربية متعددة، والحصة الكبرى فيها لمواطنين سوريين من عائلات وفئات معروفة بأسماء وأنساب لها أدوار في مجالات السياسة، والإدارة، والاقتصاد، وقطاعات المال والأعمال.

هذه المبادرة الرئاسية ليست طارئة، بل هي من تقاليد الرئاسات الديموقراطية في عالم الغرب، وقد ورثتها الجمهورية اللبنانية من تقاليد سلطة الانتداب الفرنسي، فالرئاسة الفرنسية تملك صلاحية منح الجنسية، لكن لأعلام مميزين بكفايات ومؤهلات علمية أو ثقافية، أو بإنجازات إنسانية وحضارية تندرج في خدمة الشعب الفرنسي عموماً، وغالباً ما تأتي هذه المأثرة لمن يستحقها مع نهاية ولاية الرئيس المقيم في قصر «الإليزيه».

فماذا يعني إقبال شخصيات سورية، ومن جنسيات أخرى من كبار المتمولين، والمستثمرين، على طلب الجنسية اللبنانية، غير الرغبة بإخفاء جنسيتهم الأصلية بغية الانتقال إلى عالم جديد بجواز سفر لبناني لا يزال صالحاً للعبور به إلى حيث لا يصل آخرون!

قبل نحو ربع قرن، أي في عهد الرئيس الياس الهراوي، أمرت سلطة الوصاية السورية بمنح الجنسية اللبنانية لنحو ربع مليون اسم وفق لوائح جرى تنسيقها في «مقر عنجر»، وضمت هويات آلاف من جنسيات عربية آسيوية وأفريقية مختلفة، بعضها للخدمات المخابراتية وأخرى مقابل دفعات تختلف أرقامها باختلاف مستوى مقام المجنّس وأرقامه في بنوك دول لا تخضع ودائعها للقوانين الدولية. وقليلاً كان، في ذلك الزمن، عدد الذين تجرأوا على نشر الأسماء والتفاصيل، مع الإشارة إلى أن هؤلاء المجنسين توزعت أسماؤهم على لوائح القيد للانتخابات النيابية اللبنانية، وبالتأكيد لن يخونوا الأمانة، ولن ينكروا الجميل، وسوف يظلون أوفياء لمن جنّسهم، ولهم حق الانتخاب في البلدين الشقيقين.

ذلك الهوى الانتخابي تجلّى أيضاً في رحلات وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل إلى أربع قارات (أميركا، وأوروبا، وأفريقيا، وأستراليا) حاملاً أوراق الاقتراع في الانتخابات الأخيرة إلى أبناء وأحفاد أولئك الأبطال المغامرين الذين اقتحموا المحيطات والأدغال، وصارعوا الوحوش الضارية، وأفنوا أعمارهم في زرع أحلامهم وطموحاتهم حتى أثمرت أجيالاً لبنانية عريقة الأصل، قوية الإيمان، والصبر، والجهد، والشجاعة، أمينة على الرزق، وفيّة للمعروف، فكانت منها تلك الملايين اللبنانية، العربية، التي توالدت، وتكاثرت، وتعلّمت، وعلّمت، وساهمت في إنشاء المدن، والمؤسسات، ومعاهد العلوم، فكان منهم رؤساء، ووزراء، ونواب، ونوابغ، وكم كانت نتائج أصوات المقترعين متواضعة، ومربكة، في رحلتها عبر القارات إلى غرفة الفرز في وزارة الداخلية في بيروت.

وإذ أقفلت تلك الغرفة بإعلان نتائج الانتخابات التي استمر فرزها يومين وليلين، بدأت تتكشف المخالفات بكل الوسائل والتحايل على القانون واستغلال السلطة والنفوذ وفق ما كشفته بيانات مرشحين متأكدين من فوزهم، لكن النتائج الرسمية جيّرت حقوقهم إلى آخرين.

إنه الفساد السياسي الذي يبدأ من فوق ويتدرج إلى تحت.

«كل القيادات السياسية عندنا تلتقي على ضرورة مكافحة الفساد»، يقول الرئيس عون، ويضيف: «من جهتي، لن أتساهل بعد اليوم في أي ملف يرفع إليّ في هذا الموضوع، أو إلى أجهزة الرقابة».

بالنسبة إلى الهيئات الدولية يُعتبر هذا الكلام الرئاسي قراراً حاسماً لا بدّ من وضعه في التنفيذ من دون تأخير، خصوصاً أن الفساد في لبنان علة وُجدت مع تأسيس أول إدارة رسمية في بداية عهد الاستقلال، وللفساد في الدولة اللبنانية ملفات متكدسة في الأقبية المظلمة منذ بداية الاستقلال، وكل عهد يأتي ومعه برنامجه وفريقه السياسي والإداري، فيضيف ملفاته إلى ما سبق...

في عهود سابقة، لم يخل مجلس النواب من جبهة إصلاح، وفي عهد الرئيس كميل شمعون منتصف القرن الماضي طُرحت فكرة خصخصة وزارت الخدمات العامة (الطاقة – الكهرباء – الاتصالات – المياه – النقل العام) لكن جبهة المعارضة في ذلك الزمن رفضت الفكرة في الأساس، تحسباً لسيطرة الرأسمال الحرّ على مقدرات الدولة والشعب. وفي المقابل كان الإصلاح السياسي، والإداري، والاجتماعي، صعباً، بل شبه مستحيل، مع الطبقة السياسية التي تتوارث النفوذ في الدولة كما لو أنه «حق مشروع» ينتقل من اسم إلى اسم.

لكن، في عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958 – 1964) أجريت محاولة «استيراد» الإصلاح من الغرب، خصوصاً من فرنسا. فقد كان للرئيس شهاب في فترة قيادته للجيش، صديق قديم، وكان خبيراً في الإصلاح الإداري، وشهرته (الأنتندان لاي) وقد أقنعه بالمجيء إلى لبنان لإجراء مسح شامل للوضع الإداري والاقتصادي والاجتماعي، ولبّى الخبير دعوة صديقه الرئيس وشكّل هيئة خبراء ومستشارين باسم «بعثة إيرفد». تلك البعثة أجرت المسح الشامل المطلوب للوضع اللبناني، ووضعت تقريراً مطوّلاً، وكان أول تقرير وأهمه عن أزمات لبنان في العمق.

لقد كشف تقرير «إيرفد» بالأرقام أن أربعة في المئة فقط من اللبنانيين (عام 1960) يشكلون طبقة «أغنى الأغنياء»، وهؤلاء كانوا يملكون مفاتيح الرساميل والاقتصاد في البلاد مقابل نسبة 11 في المئة يشكلون «طبقة الأغنياء»، وعشرين في المئة يشكلون «طبقة ذات مداخيل عالية، وشبه دائمة»، أما في القطاع الزراعي، فقد كشف تقرير «بعثة إيرفد» عن نسبة 51 في المئة من المزارعين يعملون ويعيشون من أراضٍ يملكون منها ما نسبته 7 في المئة.

وتضمن ذلك التقرير في زمنه أيضاً (1960) إشارات إلى علة لبنان السياسية بالجملة التالي نصّها: «منذ الاستقلال تناوب على الحكم والسلطة في لبنان رؤساء، ووزراء، ونافذون، موزعون على سبعين عائلة من مجموع العائلات اللبنانية، وفق ما حدد التقرير المناطق «الأكثر حاجة للإنماء» وهي: عكار – الضنية – الهرمل – الجنوب المحاذي للحدود مع فلسطين». وقد أثمر التقرير مشاريع إنمائية عدة – إصلاحية – إدارية، أهمها: إنشاء وزارة التصميم (كانت ألغيت، وأخيراً أعيد طلب تأسيسها باسم «وزارة التخطيط» والمشروع الأخضر. أما المؤسسات الإدارية والمالية، فكانت: البنك المركزي، ومجلس الخدمة المدنية، والتفتيش المركزي).

ولقد مضت خمس وسبعون سنة من عمر استقلال لبنان ولا يزال الموضوع الرئيسي الدائم بالعناوين المكبرة: «الفساد، ثم الفساد، ثم الفساد»، وبعده النداء الدائم في وجه كل عهد: الإصلاح، ثم الإصلاح، ثم الإصلاح».

وهناك سابقة في عهد إدارة الرئيس الراحل الشهيد رفيق الحريري لم تتكرر، وهي «مؤسسة أوجيرو الاتصالات – والبريد»، فمع هذه المؤسسة انتظم البريد اللبناني في الداخل وعبر العالم، وتحررت خطوط الهاتف الثابت والمحمول من قبضة احتكار الأرقام عبر «وزارة البريد والبرق والهاتف»، وهو العنوان القديم للاتصالات الذي خرج من الذاكرة اللبنانية، وقد أقفل باب السمسرة، والمتاجرة بخطوط الهاتف وأرقامه. وفي خضم هذه المعلومات والتصريحات عن الفساد في إدارة الدولة اللبنانية، أصدر الرئيس العام لهيئة «أوجيرو – الاتصالات» أخيراً البيان الآتي:

«إن الفساد والفاسدين ليسوا مطمئنين، إذ إن الحال لم يعد كما كان عليه في السابق، فباتت المخالفات تُعد، وتحصى، والمسؤول عن أي هدر أو اختلاس بات يُسأل ويُحاسَب، ويُعاقَب عنه إن ثبتت عليه تهمة... نعم، إنه زمن المحاسبة، أما الفساد فبات من زمن آخر، ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء. لن ينجح التوظيف السياسي السلبي في تغيير مسار الإصلاح الداخلي الذي يرعاه العهد...».

هذا كلام موظف لبناني رسمي خاص بدائرة واحدة من مئات الدوائر الرسمية في العاصمة بيروت والمناطق... وهو كلام في خدمة عهد الرئيس عون، لكنه أيضاً دليل وبرهان على أن تحرير قطاعات الخدمات المباشرة للشعب (الكهرباء – المياه – النفايات) من الإدارة الحكومية المباشرة ممكن، وهو لمصلحة الشعب والدولة معاً، لأن المراقبة المستقلة أكثر فاعلية، والمسؤولية محصورة في إدارة معينة، والمحاسبة لها أصول، والنتائج لمصلحة الشعب، والدولة معاً.

هناك حكومة لبنانية جديدة على الأبواب، وفيها وزير لمكافحة الفساد، وأياً يكن ذلك الوزير فستكون وزارته الأهم. فالفساد الإداري يرقى إلى مستوى الاحتلال، ولا مقاومة... فمن سيتطوع لمقاومة هذا العدو الذي يسلب الإدارة عافيتها، ويشوّه سمعتها، ويعمّم فيها الفساد. إنه العدو الداخلي الذي لا يقهره إلا الأقوى في المقاومة.

ويبقى اللبنانيون في انتظار حكومتهم الجديدة التي ستولد بالتوافق «الوطني» على عدد الوزراء، وحصة كل كتلة. لكن أعداداً كبيرة من اللبنانيين لا تعلم أن الولايات المتحدة الأميركية التي تبلغ مساحتها تسعة ملايين وثمانمئة وخمسة وعشرين ألف كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها نحو ثلاثمئة وخمسة وعشرين مليوناً، لها حكومة مؤلفة من 16 وزيراً. أما لبنان الذي لا تزيد مساحته عن عشرة آلاف و425 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانه نحو أربعة ملايين ونصف المليون، فإن عدد وزراء حكومته التي لا تزال قيد التأليف لن يقلّ عن الثلاثين وزيراً وما فوق! وسوف يكون شعارها: الإصلاح والإنماء!