صالح القلاب

لدوافع وأسباب كثيرة، حرص الأردن الرسمي على ألا يثير مسألة التدخل الخارجي في «الاحتجاجات» الأخيرة التي شهدها، والتي يمكن اعتبار أنها كانت تعبيراً صادقاً عمّا بات يشعر به الأردنيون إزاء تردي أوضاع بلدهم الاقتصادية. وكل هذا مع أنه كان هناك تدخل سافر وبطرق وأشكال مختلفة، من بينها «اندساس» مجموعات، تم إرسالها من الخارج في فترات سابقة، بين المحتجين، لتحويل احتجاجهم السلمي إلى شغب وإلى مواجهات دامية مع الأجهزة الأمنية. وهذا في حقيقة الأمر كان بالإمكان أن يأخذ أبعاداً خطيرة لو لم يتم إلقاء القبض على عدد من هؤلاء، وحيث بالتحقيق الأولي معهم قد أدلوا بمعلومات في غاية الأهمية والخطورة.

كان الأردن وقبل فترة طويلة من بدء هذه الاحتجاجات قد حصل على معلومات، من خلال متابعاته الأمنية الحثيثة، تؤكد أن هناك «غرفة عمليات» إعلامية «إلكترونية» في دمشق، يشرف عليها خبراء إيرانيون وبالطبع سوريون، وأيضاً لبنانيون من أتباع «حزب الله»، هي التي تقوم بتزويد وسائل التواصل الاجتماعي الأردنية بمعلومات وإشاعات «مفبركة»، عن اضطراب الأوضاع الأردنية وعن اقتتال داخلي ومواجهات واعتقالات بالمئات، وأيضاً عن أن الأوضاع الاقتصادية في الأردن ذاهبة إلى الانهيار، وأن الدينار الأردني سيشهد هبوطاً هائلاً في قدرته الشرائية. وهذا بالإضافة إلى الاستمرار بالتهويل فيما تسمى «صفقة القرن»، ودور بعض الدول العربية فيها بالضغط على القيادة الأردنية للقبول بها، وبالطبع فإن المعروف أنه ثبت بعد انعقاد القمة الأخيرة في مكة المكرمة أن هذا كله هو مجرد أكاذيب، هدفها زعزعة الأوضاع السياسية والأمنية في المملكة الأردنية الهاشمية.

والمعروف أن بشار الأسد نفسه كان قد هدد في بدايات انفجار الأزمة السورية في عام 2011، بنقل ما يجري في سوريا إلى الأردن، وحقيقةً أن محاولات نظامه ومعه إيران في هذا الاتجاه لم تتوقف خلال الأعوام السبعة الماضية، وعلى الإطلاق، وكان هؤلاء قد حاولوا في البدايات تسريب أعداد من ميليشيات «حزب الله» اللبناني إلى الأراضي الأردنية، بحجة الوصول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، واستهداف «العدو الصهيوني»! ولعل ما تجدر الإشارة إليه هنا أن هذه المحاولات قد بدأت في وقت مبكر جداً، وأنه تم إلقاء القبض على بعض التابعين لهذا الحزب (حزب الله)، وحيث تم تسليم اثنين منهم إلى الرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود، الذي عاد بهما بطائرته إلى بيروت، بعد زيارة خاطفة إلى العاصمة الأردنية.
كانت هناك ومنذ اللحظات الأولى، بالإضافة إلى كل محاولات الاختراق الأمنية هذه، هجمات إعلامية من قبل عشرات؛ لا بل مئات «الإلكترونيات»، ووسائل التواصل الاجتماعي، ومن قبل كثير من الفضائيات، وفي مقدمتها قناة «الجزيرة» القطرية، التي كانت ولا تزال تقاريرها وتعليقاتها أشد قسوة وتأثيراً من القصف المدفعي والصاروخي، وحيث كانت تحاول استدراج الأردنيين إلى مزيد من التصعيد والعنف، وإلى أنه لا يكفي إسقاط قرارات وتوجهات صندوق النقد الدولي، وسحب مشروع قانون الضريبة الجديد؛ بل وإسقاط الحكومة الأردنية أيضاً.

ولقد اقتربت من مستوى «الجزيرة»، وبعض الفضائيات «الإخوانية» التي تنطلق من تركيا، هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، بجناحيها الإذاعي والتلفزيوني، والتي ساهمت في تعزيز ما كانت تبثه وسائل الإعلام الإيرانية، ومعها بالطبع إعلام نظام بشار الأسد، وبعض المواقع «الإلكترونية» العربية الأخرى، من تقارير «مفبركة» وغير صحيحة، وإلى حدِّ أن بعض الأشقاء والأصدقاء فعلاً صدقوا أن ذلك الذي كان يجري في الأردن هو حلقة جديدة من حلقات الربيع العربي الذي لم يمر مرور الكرام، كما يقال، إلا بتونس، والذي لا تزال ألسنة نيرانه متصاعدة في سوريا وفي ليبيا... وأيضاً... أيضاً في العراق.
لا شك في أنَّ هناك إعلاماً عربياً كان بصورة عامة إيجابياً ومسانداً، وكان يبتعد عن «الشائعات» ويتحاشى الأخذ بما كان يقوله من كانوا يشكلون «طابوراً خامساً» يدفع بالاحتجاجات، التي كانت بصورة عامة سلمية ومطلبية، إلى العنف وحتى إلى الصدامات المسلحة، وهؤلاء كما تم اكتشافه من خلال التحقيقات اللاحقة، من أتباع النظام السوري على قلتهم، ومن المجندين لحساب إيران، ومن بعض الجماعات الهامشية المتأثرة بالتشكيلات والتنظيمات الشبابية في بعض الدول الأوروبية الغربية.
وكل هذا، وقد بات واضحاً ومثبتاً ومعروفاً أنَّ بداية انطلاق هذه الاحتجاجات كانت عقلانية وعفوية، وأن الأحزاب الأردنية، التي يصل عددها إلى أكثر من أربعين حزباً، والتي كلها ومن دون استثناء ينطبق عليها ذلك الوصف القائل: «كثيرة العدد قليلة البركة»، لم يكن لها أي دور فيها، وهذا يشمل «الإخوان المسلمين» الذين باتوا في السنوات الأخيرة يعانون من كساحٍ مُقْعد بالفعل، وباتوا يعانون من «شرذمة» تنظيمية، بسبب فشلهم المبكر في أن يفعلوا ما فعله «إخوانهم» في مصر الذين كانوا انتزعوا نظام أكبر دولة عربية بالتآمر وبأساليب متعددة؛ لكنهم لم يستطيعوا المحافظة عليه لأن الشعب المصري لم يعد يطيقهم ولا يريدهم، بعد تجربة فاشلة قصيرة أثبتوا خلالها أنهم ما زالوا غير مؤهلين لإدارة حكم وصلوا إليه في لحظة عابرة «اختلط فيها الحابل بالنابل».
لقد كانت الاحتجاجات الأردنية العفوية والسلمية، والتي عجز المتدخلون من الخارج عن اختراقها وحرف مسارها في اتجاه العنف وإسالة الدماء، محقة، وكانت ضرورية، والدليل هو أنّه لم يكن هناك أي صدام فعلي بينها وبين أجهزة الأمن الأردنية، وأن العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين، قد تبنى، إنْ ليس كل فمعظم شعاراتها ومطالبها، وهذا هو ما أغضب «المندسين» داخلياً والمتدخلين من الخارج بالأفعال والأقوال، وفي مقدمتهم إيران ونظام بشار الأسد، الذي بادر إلى حشد قواته، التي غالبيتها من حراس الثورة الإيرانية والميليشيات الطائفية المستوردة حتى من أفغانستان وباكستان، وبالطبع من العراق وإيران، ولبنان (حزب الله)، في اتجاه درعا والقنيطرة وما يسمى «الجبهة الجنوبية».

وهنا، فإن الأخطر في هذا كله، هو أن دولة عربية «شقيقة» هي قطر، لم تكتفِ بإطلاق إعلامها المرئي والمسموع والمقروء، «المهاجر» منه و«المقيم»، ليواصل صب الزيت على ما اعتبروه ناراً أردنية؛ بل تجاوزوا هذا إلى السعي للإيقاع بين الأردن والمملكة العربية السعودية، بحجة أن هذه الدولة الشقيقة العزيزة، التي كانت دائماً وأبداً داعماً وسنداً للمملكة الأردنية الهاشمية وللعرب كلهم بصورة عامة، تمارس على الأردنيين ضغطاً مادياً وسياسياً، لإلزامهم بالاستجابة لـ«صفقة القرن» التي كان أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، من دون أي إيضاحات ولا «تفاصيل». وحقيقةً أنّ هذا كله كان كذباً وافتراء، يستهدف الدولة الأردنية والشعب الأردني في مثل تلك الظروف الصعبة والخطيرة، وأنها كانت محاولات للاصطياد في مياه ظن هذا الإعلام القطري أنها أصبحت عكرة!

إن هناك غرفة عمليات إعلامية في الدوحة يديرها ويشرف عليها - للأسف - حتى بعض الذين تم استيرادهم من إسرائيل، ولقد وُضعت هذه الغرفة خلال فترة الاحتجاجات الأردنية هذه في حالة الاستنفار القصوى. وهنا فإنه غير مستبعد أن يكون رئيس الوزراء القطري السابق محمد بن جاسم آل ثاني لا يزال يشرف عليها؛ إذْ إنه قد بادر هو بدوره في ذروة الاحتجاجات الأردنية، إلى إطلاق تصريحات خبيثة، ظاهرها الحرص على الأردنيين وباطنها «التآمر»، وتحريضهم ضد الشقيقة العزيزة المملكة العربية السعودية، المعروفة بأنّ مساندتها لأشقائها كانت دائماً وأبداً بالأفعال وليس بالأقوال كما فعل الذين دأبوا على إشباع الأردن خلال هذه «الأزمة» الأخيرة وعوداً براقة؛ لكنهم لم يدفعوا له فلساً واحداً، حتى من حصتهم في «المنحة» الخليجية.
لقد كان هذا الدرس قاسياً، ولقد شعر الأردنيون في البدايات بأنهم متروكون لاستهداف خارجي تشكل إيران الرقم الرئيسي في معادلته، لا بل وقد سادت أيضاً قناعة بأن الولايات المتحدة، التي من المفترض أنها دولة صديقة وحليفة، راضية عما كان يجري، وهذا ينطبق وإنْ بنسب متفاوتة على الدول الأوروبية الغربية كلها، التي بقيت تنتظر نهايات احتجاجات الأيام الماضية، وحيث لم يقدم حتى الأكثر صداقة للأردن من بينها إلا «تصريحات» التعاطف الإنشائية الجميلة، وعن بعد.

ولعل ما تجدر الإشارة إليه في النهاية، هو أن الأردن خلال فترة الاحتجاجات هذه كان يشعر بأنه مستفرد ومستهدف؛ لكن مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بالدعوة لاجتماع مكة المكرمة العاجل، الذي أسفرت عنه قرارات في غاية الأهمية لدعم الأردن، أعادت الثقة للأردنيين بأن أمتهم لن تتخلى عنهم، وأن المملكة العربية السعودية ومعها دولة الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة هي عمقهم الاستراتيجي، وأن «الدم ما يصير ميه» وهذا كان حصل في مرات سابقة كثيرة.