حازم صاغية 

على نحو مفاجئ، انتقد علي خامنئي، مرشدُ إيران، جمال عبد الناصر، زعيمَ القوميّة العربيّة الذي رحل في 1970. سببُ الانتقاد التويتريّ أنّ عبد الناصر «صرّح» بأنّه سيرمي اليهود في البحر. والحال أنّ عبد الناصر لم يقل هذا، فيما العبارة المذكورة منسوبة إلى أحمد الشقيري، أوّل رؤساء منظّمة التحرير الفلسطينيّة.


لا يعني ذلك أنّ الناصريّة كانت براء من اللاساميّة. ففي عهدها ظهر عدد هائل من الكتب المعرّبة عن أدبيّات اللاساميّة الأوروبيّة. شقيق عبد الناصر، الليثي عبد الناصر، كان أحد مُعرّبي «بروتوكولات حكماء صهيون». في 1968، ومن كلمات عبد الرحمن الأبنودي، غنّى عبد الحليم حافظ أغنية «المسيح» التي أنهاها بأنّ «نَـفْس اليهود» هم الذين «صلبوا» المسيح. لكنْ بعد تنبيه الأزهر إلى أنّ المسيح، وفقاً للإسلام، لم يُصلب، حلّت محلّ كلمة «صلبوا» كلمةُ «خانوا»...

هذا كلّه تاريخ. وليس متوقّعاً من خامنئي، الذي ترجم بعض كتب الإخوانيّ المصريّ سيّد قطب إلى الفارسيّة، أن يكون معجباً بعبد الناصر الذي أعدم قطب.

مع ذلك، يبقى غيرَ مفهوم أن يفتح خامنئي هذا الملفّ الآن. فالتيّار الذي ينتسب إليه المرشد الأعلى أنشط التيّارات في إنكار المحرقة. لقد كان رئيسُ الجمهوريّة السابق محمود أحمدي نجّاد أبرز فرسان هذا الإنكار. خامنئي نفسه شارك في الإنكار، عبر فيديو على موقعه نشره يوم تذكّر ضحايا المحرقة في 27/1/2016. وفي طهران نفسها انعقدت مؤتمرات للمنكرين، بما فيها رسوم كاريكاتوريّة ومعارض.

والأمر يرقى إلى آية الله الخميني ذاته الذي روّج، منذ الستينات، لـ «المؤامرة اليهوديّة العالميّة»، وسمّى الشاهَ يهوديّاً مُقنّعاً، ولم يخلُ كتابه «الحكومة الإسلاميّة» من هذه «الحِكَم» والأحكام الخرافيّة وصولاً إلى أنّ الإسرائيليّين «ليسوا بشراً».

ما يزيد الاستغراب بتغريدة خامنئي إرفاقها بالتراجع عن وعده «بمحو إسرائيل من الخريطة»، والإصرار على أنّ إيران «تلعب بعقلانيّة»، والمطالبة بـ «أساليب ديموقراطيّة لحلّ النزاع بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين»، بل التوكيد على أنّ «الديموقراطيّة اليوم هي النهج الحديث الذي يقبله العالم بأسره».

هذه اللغة غير خامنئيّة وغير خمينيّة. اعتمادها لا يعود إلى أسباب معرفيّة أو أسباب أيديولوجيّة. أغلب الظنّ أنّ السياسة، بوصفها توازنات قوى، ما يفسّر اللجوء إليها. فالإسرائيليّون يحاصرون الوجود الإيرانيّ في سوريّة، ويضعون طهران أمام خيارات أحلاها مهين ومُذلّ. الوضع الاقتصاديّ بالغ السوء، تزيده عودة العقوبات الأميركيّة سوءاً. علاقات أجنحة السلطة في الداخل ليست على ما يرام. التوسّع الخارجيّ كبرت أكلافه كثيراً في السنتين الأخيرتين.

ونعرف أنّ إسلاميّي إيران، ومثلهم إسلاميّو العرب، يملكون نوعاً من البراغماتيّة الرخيصة التي تجعلهم يلبسون لكلّ حالة لبوسها. نعرف أيضاً أنّ إيران، وكان الخميني لا يزال حيّاً، جمعت بين ذروة الحماسة لـ «تصدير الثورة» وأقصى الاستعداد للتعاون مع «الشيطان الأكبر»، على ما أظهرت فضيحة إيران-غيت الشهيرة.

فهل يمكن جمع هذه القِطَع المبعثرة في وجهة مفيدة، كأنْ تكون إيران تجسّ نبض الإسرائيليّين وتشجّع على مدّ جسر بين الطرفين؟ وهل يمكن أن يكون الروس قد أوحوا للإيرانيّين بذلك، بحيث تغادر طهران مأزقها السوريّ من دون أن تُضطرّ موسكو إلى إشهار انحيازها الصريح للإسرائيليّين في مواجهةٍ بين حليفين لها؟ وهل يمكن أن تكون القيادة الإيرانيّة قد وجدت مرجع تقليد في الصفقة الأميركيّة– الكوريّة الشماليّة الأخيرة؟

إذا جازت الإجابة بـ «نعم»، وهي بالطبع «إذا» احتماليّة جدّاً، جاز القول إنّ الموقف «الفكريّ» الأخير لخامنئي ليس محكوماً بتاتاً بالأفكار. أمّا استحضار عبد الناصر سلباً، وخطأً، فقد يُراد منه توكيد المسافة بين إسلاميّي إيران والقوميّين العرب الذين ارتبطت بهم تاريخيّاً الدعوات إلى إزالة إسرائيل.

تبقى، في حالِ صحّ هذا السيناريو، مفارقة لافتة: لقد ألهب إسلاميّو إيران القوميّين العرب والوطنيّين الفلسطينيّين فيما كان الأخيرون يبردون ويهدأون. السيناريو هذا يوحي أنّ الذين مارسوا الإلهاب سيمارسون، من الآن فصاعداً، التبريد وربّما الإخماد.

... قد نكون عشيّة تحوّلات مثيرة في منطقة مثيرة.