عدنان حسين

 المؤكد أن إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية الجارية في 12 مايو (أيار) الماضي وإعادة الانتخابات برمّتها، هو الخيار الأفضل بين عدة خيارات لمعالجة أزمة التزوير واسع النطاق الحاصل في هذه العملية.
الانتخابات السابقة كلّها، برلمانية كانت أم محلية (مجالس المحافظات)، شهدت عمليات تزوير. الطبقة السياسية المتنفّذة نجحت دائماً في «لفلفة» قضية التزوير بالتوافق في ما بينها وبإعادة توزيع المصالح والمنافع وتبادلها. هذه المرّة كان الأمر مختلفاً، فالانتخابات الأخيرة جرت في ظروف تفكّكت فيها الكتل الكبيرة المتشكّلة على أساس طائفي (شيعي - سني)، وقومي (عربي - كردي)، وهي جاءت على خلفية انهيار الثقة بالعملية السياسية الناشئة بعد 2003 والمرتكزة إلى المحاصصة الطائفية والقومية، خصوصاً بعد اجتياح «داعش» ثلث مساحة العراق ثم الحرب الطويلة المُكلفة لطرد التنظيم الإرهابي، بكل ما ترتّب على ذلك من فواجع ومآسٍ ومحنٍ عصفت بكل العراقيين تقريباً، وهي مهمّة لم تكتمل تماماً بعد.


عمليات التزوير في الانتخابات الأخيرة وسابقاتها ساعدت فيها وفاقمتها المنافسة المحتدمة بين القوى السياسية المتنفّذة وتكالبها على السلطة والنفوذ والمال. لم تنحصر المنافسة في النطاقين الطائفي (شيعة وسنة) وقومي (عربي وكردي)، إنّما أيضاً داخل كلٍّ من هذه المكونات، فالأحزاب الشيعية تصارعت بضراوة، ولم تزل، في ما بينها على المناصب الرئيسة في الدولة، وكذا الحال بالنسبة إلى الجماعات السنية والأحزاب الكردية.
ومما ساعد أيضاً في التزوير في كلِّ الانتخابات أن الهيئة التي عُهِد إليها بإدارة الانتخابات (المفوضية العليا للانتخابات) لم تكن أبداً مستقلّة، بخلاف ما نصّ عليه الدستور الدائم ليضمن تحقيق العدل والنزاهة والإنصاف وعدم حصول عمليات تزوير في العملية الانتخابية. على الدوام كانت المفوضية تتشكّل من ممثلي القوى السياسية المتنفّذة في البرلمان والحكومة، وهي قوى لا يتجاوز عددها الستة أو السبعة، وقد أصبح عدد من أعضاء مجالس المفوضية بعد انتهاء مهامهم أعضاء في مجلس النواب مترشّحين على قوائم الأحزاب المتنفّذة التي انتدبتهم إلى عضوية المفوضية، ولا بد أن ذلك كان مكافأة لهم عمّا قدّموه لهذه الأحزاب في أثناء خدمتهم في المفوضية، ولا بد أن التلاعب بالعملية الانتخابية لصالح هذه الأحزاب هو ما قدّموه.
فضلاً عن المفوضية، فإن قانون الانتخابات نفسه صاغته القوى المتنفّذة على مقاساتها لترسيخ وتوسيع نطاق نفوذها في البرلمان والحكومة وسائر أجهزة الدولة، فقد سُنّت صيغة للقانون تُمكّن الأحزاب المتنفّذة من الاستحواذ حتى على الأصوات الممنوحة للأحزاب «الصغيرة» التي لا تفلح في بلوغ العتبة الانتخابية، وبذا يصبح «أثرياء» البرلمان انتخابياً أكثر ثراءً بينما يزداد «فقراؤه» فقراً.
خيار إلغاء نتائج الانتخابات الأخيرة وإعادة تنظيمها من جديد مع الانتخابات المحلية المؤجّلة والمقرّر إجراؤها نهاية العام الحالي، بالإضافة إلى معالجته مشكلة التزوير الفادح في انتخابات الشهر الماضي، كان سيُعيد بعض الثقة بالعملية السياسية. الانتخابات الأخيرة أعطت مؤشرات قويّة على شعور الأغلبية من العراقيين بالخذلان حيال هذه العملية. هذا ترجمته أولاً مقاطعة الأغلبية من الناخبين (56% منهم لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع، وقد تكون النسبة الحقيقية أكبر، فهذا العنصر يُمكن أن يكون هو الآخر قد طالته عمليات التلاعب والتزوير)، وهذه أول مرة تتجاوز فيها نسبة المقاطعة الـ50% في الانتخابات العراقية. كما أن الكثير من الذين شاركوا في الاقتراع حجبوا أصواتهم عن العديد من الشخصيات الأساسية (القيادات) في العملية السياسية طوال الفترة الماضية فأسقطوهم، وهذا مما كان مدعاة لإثارة حفيظة هذه الشخصيات التي عملت على الطعن في نتائج الانتخابات وتشريع قانون جديد في البرلمان يعدّل قانون الانتخابات بما يُعيد عملية العدّ والفرز يدوياً بدلاً من أن يكون إلكترونياً. كما سعت هذه الشخصيات إلى إلغاء نتائج الانتخابات في الخارج وفي مخيمات النازحين والتصويت الخاص في إقليم كردستان، لكنّ المحكمة الاتحادية قضت الخميس الماضي ببطلان المادة الخاصة بالإلغاء الجزئي للنتائج.
الخيار الأفضل (إعادة الانتخابات) لا تقبل به القوى المتنفذة، فالانتخابات إذا ما أُعيدت ستُمنى فيها هذه القوى بمزيد من الخسارة. ومثلما عاقب الناخبون هذه القوى في الانتخابات الأخيرة جزاءً لها عن فشلها في إدارة الدولة طول الحقبة الماضية، سيذهبون عند الإعادة إلى معاقبتها مرة أخرى عن عمليات التزوير التي ما كان بوسع أحد غيرها ارتكابها، بحكم نفوذها في مفوضية الانتخابات وفي سائر أجهزة الدولة. هذا العقاب سيتمثّل بالمزيد من المقاطعة والمزيد من عدم التصويت للشخصيات الأساسية. كما أن إعادة الانتخابات ستتطلب بالضرورة إعادة تشكيل مفوضية الانتخابات على أساس مختلف يضمن استقلاليتها وبالتالي نزاهة العملية الانتخابية، وهذا ما لا ترغب فيه القوى المتنفّذة التي عملت دائماً على تفاديه.
المحكمة الاتحادية العليا التي تمّ الطعن أمامها في العملية الانتخابية، أمسكت بالعصا من الوسط بعدم إلغاء الانتخابات وعدم تثبيتها، وإنما بإعادة العدّ والفرز يدوياً. هذا القرار هو في الواقع طوق إنقاذ للطبقة السياسية المتنفّذة المسؤولة قبل غيرها عن تزوير العملية الانتخابية وعن سائر مظاهر الفشل في إدارة الدولة والمجتمع في العراق على مدى الخمس عشرة سنة الماضية.