سمير عطا الله 

احتدمت منذ الخمسينات حربٌ شعواء بين شعراء الفصحى، التقليديون منهم والحداثيون. وكما يحدث في كل جدلٍ ثقافي من هذا النوع، تتداخل التيارات وتتكاثر التهم. واعتبر يومها الدكتور سهيل إدريس، صاحب «الآداب» أن مؤامرة إمبريالية غربية تقف وراء شعراء النثر. ومع أن بيروت كانت ساحة المعركة بسبب موقعها وحرياتها، فإن كبار الشعراء المعنيين آنذاك كانوا غير لبنانيين: بدر شاكر السياب، ونزار قباني، وأدونيس، ومحمود درويش، وعبد الوهاب البياتي، وأمل دنقل، وصلاح عبد الصبور، ونذير العظمة، وسواهم.

تزعّم، أو رعى الحركة الحديثة الشاعر يوسف الخال، الذي كان ذا ثقافة واسعة في الآداب الإنجليزية، وكان يتوقُ إلى إخراج الشعر اللبناني من جموده قائلاً بحدة إن شعرهم يمثل «الانحطاط أصدق تمثيل: كلامٌ موزونٌ مقفًى تسوده الركاكة والمحاكاة، وتنوء به البراعة اللفظية والتوشية البيانية». وكان يعطي أمثلة على ذلك قصائد الشيخين ناصيف وإبراهيم اليازجي، وبطرس كرامة، وإلياس إده وسواهم، ويأخذ عليهم أنهم يتبارون في نبش آثار القدامى «من جاهليين، وأمويين، وعباسيين، وأندلسيين، ومحاكاتهم في أساليب النظم وأغراضه. وهي آثار إذا كانت جيدة، فللعصور التي وضعت فيها. وهي أساليبُ وأغراضٌ، إذا وجدت ما يبررها في حينها، فلم يكن لها من مبرر في ذلك العصر».
وكان رئيس جمعية «أهل القلم» الشاعر صلاح لبكي يقول عن بعض أقرانه وسابقيه: «إنهم يبارون الأقدمين، فيجف ريقهم على اللفظة والمحسنات اللفظية وجودة الصياغة. بل راحوا يغزون الأقدمين غزوا في أساليبهم ومواضيعهم وصورهم وتشابيههم، غير حافلين بفواصل الزمن وتطور الحضارة، وغير آبهين بالإنسان. مدائحهم مُقفِرَة إلا من المبالغات، مراثيهم وحكاياتهم موحشة إلا من تكلف الحزن، وغزلهم فارغ إلا من الثرثرة على الشوق والحنين، والكلام عن عيون البقر، والتحرّق البارد على تفاحٍ ورمانٍ وعنابٍ وغصنٍ مياس».
بقيت الرومانسية اللبنانية في رأي المحدثين أسيرة حدود القرن التاسع عشر. وظلَّ الشعراء اللبنانيون يقلّدون الرومانسيين في أوروبا، وخصوصاً في فرنسا. وروى صلاح لبكي في كتابه «لبنان الشاعر» أن الجامعة الأميركية دعت في الأربعينات إلى أمسية شعرية شارك فيها الأخطل الصغير فكان أن ألقى قصيدة بعنوان «عروة وعفراء» التي نظمها سنة 1917. واعترض زميله سعيد عقل على ذلك قائلاً إن ثمة قضايا تحتّم الخروج من فكر القرون الماضية. غير أن سعيد عقل نفسه هو الذي يعتبره يوسف الخال مثالاً للرجعية الشعرية. ومن دون أن يتهمه بالسرقة يورِدُ التشابه بين أشهر قصائده «رندلي»، وبين أشهر قصائد عمر بن أبي ربيعة «أتعرفن الفتى».
إلى اللقاء...