عبدالعزيز التويجري

شاركت في مؤتمر عالمي عقد أخيراً في الرباط، حول "تفكيك خطاب التطرف"، بالتعاون بين الرابطة المحمدية لعلماء المغرب، ورابطة العالم الإسلامي، في مبادرةٍ محمودةٍ منهما، جاءت في وقت مناسب، تشتدُّ فيه الحاجةُ إلى المزيد من تبيان تعاليم الإسلام المحذّرة من التطرّف، وإلى تفنيد المزاعم الباطلة، ودحض المعتقدات الفاسدة التي يقوم عليها، مع اقتراح الأساليب العلمية والوسائل العملية والحلول المجدية لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة بالمنهج السليم، وبالإجراءات القويمة، للقضاء عليها، ولإزالة مخاطرها.

لقد بات التطرف بجميع أشكاله، خصوصاً التطرف في فهم رسالة الدين وفي الانحراف عن الأخذ بالمنهج السليم في التدين على وجه صحيح، خطراً حقيقياً يُحتّم على المجتمعات البشرية أن تتصدّى له بمختلف الوسائل؛ لأنه من الدواعي القوية للإرهاب الذي أصبح يُهدّد العالم اليوم على نطاق واسع. فلولا التطرف الذي يُورد صاحبَه مواردَ الهلاك بعد الانحراف والانفلات والإضرار بالمجتمعات والإخلال بالنظام العام، لَما كان الإرهاب الذي يولّد التضليل الفكري، والأزمات السياسية، والصراعات المذهبية، والمعضلات الاقتصادية، والمشكلات الاجتماعية، ويضع البلدان التي تُنكب به أمام المجهول.

إن خطورة التطرف في شكل عام، تأتي من كونه انحرافاً في الفهم، وفساداً في الاعتقاد، وشذوذاً في السلوك ينجرف نحو الغلوّ والتنطّع، ولأنه انفلاتٌ من القواعد والضوابط، وخروجٌ عن القوانين، وتمرّدٌ على قيم المجتمع وثوابته، فإنه يؤدّي بصورة تلقائية، إلى تقويض الاستقرار، والعبث بالأمن، والإخلال بالسلم الأهلي، والإضرار بمصالح الأفراد والجماعات، وضياع فرص النماء والبناء على المجتمعات البشرية.

فالتطرّف مذمومٌ على الإطلاق في الإسلام، لأنه نقيضُ الاعتدال الذي هو سمةُ التدين الصحيح، ولما فيه من مجاوزة للحدّ ينتج منها الغلوّ. قال الله تعالى: "لا تغلوا في دينكم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إيّاكم والغلوّ في الدين، فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلوُّ في الدين". والغلوُّ في الدين هو عين التطرف. والمتطرّفون لا يفهمون فقه الأولويات والمآلات، ولا حساب عندهم لأصول الشريعة وكلّياتها ومقاصدها والترجيح بين المصالح والمفاسد، مع الجهل الذي يطبع فهمهم لطرق الاستدلال، مما يجعلهم عديمي المعرفة بتعاليم الدين الحنيف، مفتقرين إلى العلم الشرعي.

والتطرّف له أشكالٌ مختلفة، نجملها في ثلاثة: التطرّف في الاعتقاد، والتطرّف في القول، والتطرّف في الفعل والسلوك، وهو أيضاً يكون إلى اليمين ويكون إلى اليسار فلا يتخذ وجهةً واحدةً، وكل هذه الوجهات التي يجنح إليها التطرف، مذمومة، لأنها جميعاً تحيد عن الوسطية والاعتدال. ولذلك فإن التعامل مع التطرف للقضاء عليه ودرء مخاطره عن المجتمع، ينبغي أن يسير في اتجاهات ثلاثة: المحاربة الأمنية المتعددة الجوانب لأهل التطرف المتورطين في الجرائم الناتجة منه والخارجين عن القانون، والمعالجة الفكرية بأساليب حكيمة لإبطال الاعتقادات الدينية المغلوطة ودحض الحجج الفقهية الباطلة التي يستند إليها التطرف، وتحسينُ الأوضاع العامة، وإزالة الفوارق، وتوفير الفرص للعيش الكريم لجميع الفئات، بما يحقق التغيير نحو الأقوم والأحسن والأفضل، من دون صدامات تهز الاستقرار، واحتقانات تمزق النسيج المجتمعي. وهذا ما يُوجب أن يكون تفكيك خطاب التطرف مقروناً بالإصلاحات الشاملة على أسس قويمة، وبأساليب حكيمة، وبوسائل إيجابية، بحيث يكون الإصلاح من الداخل، ومنطلقاً من إرادة سياسية وطنية، وليس من الإملاءات الخارجية المفروضة بالإكراه أو بالضغط.

إنّ من الضروري تفكيك خطاب التطرف، وبيان فساده وانحرافه عن مقاصد الدين الحنيف، والعمل على نشر العلم الشرعي الصحيح الذي يُحصّن الشباب، ويبني عقولهم، ويُشيع في نفوسهم روح الرفق والإحسان، ويُبعدهم عن الغلوّ والتنطّع اللذين يقودان إلى التكفير والتفجير والإرهاب، ويقيم القواعد لبناء مجتمع قوي متماسك متضامن محصَّن ضد الأزمات ما ظهر منها وما بطن.

كما إنه من الضروري تجديد مناهج التعليم وتجويدها لتقدم المعلومات الصحيحة عن سماحة الدين ويسره، وتقويم برامج الإعلام وتوجيهها لنشر القيم الإسلامية السامية والأخلاق الفاضلة التي تُنمّي في العقول والنفوس، الاعتدالَ والتوسّطَ والبعدَ عن الغلوّ والتطرّف، وترغّبُ في القبول بالآخر، وتشجّعُ على الاقتراب منه والحوار معه حول القضايا التي تهم المصير الإنساني المشترك، وتكسر حواجز النفور منه التي تولّد الكراهية والعداء والصدام.

إن تفكيك خطاب التطرف هو عمليةٌ أوسعُ من التحليل النقدي، وأعمق من البحث عن المفاهيم وتقييم الأفكار، إنّه تقويضٌ للأسس الهشة التي يقوم عليها التطرف، واجتثاثٌ للإرهاب من جذوره، ومحوٌ لآثاره، وتطهيرٌ للمجتمعات من شروره. فهذه عمليةٌ مركبةٌ ومعقدةٌ يجب أن تحظى بالاهتمام البالغ، وأن يتصدّى لها الصفوة من المفكرين والعلماء ذوي العقول النيّرة والإرادات الخيّرة، من أمثال الذين التقوا في المؤتمر العالمي الذي شاركت فيه، في هذه المرحلة الصعبة التي يمرّ بها العالم الإسلامي، ليتدارس أولو العلم والرشد والنهى هذه القضيةَ الخطيرة، وليرسموا خريطة الطريق للجهات الموكل إليها تنفيذ التوصيات التي خرجوا بها، وليجنبوا بلدانهم الأزمات التي يسبّبها التطرف بكل أشكاله العقدية والفكرية والسلوكية.

* أكاديمي سعودي