سميرة المسالمة

يكشف صمت الضامنين لاتفاقات خفض التصعيد التفاصيل الخفية التي اتكأ عليها الشركاء الدوليين في إنهاء ملف الصراع على سورية، بالتعاون مع أطراف محلية سورية، تجمع بين النظام والمعارضة على طاولة التسويات، بعيداً عن المرجعيات الأممية التي عبر عنها نحو 17 قراراً في مجلس الأمن من بيان «جنيف- 1» وصولاً إلى القرار 2401، والتي لم ينفذ منها النظام أي من بنودها، في حين استسلمت الكيانات المعارضة المرتهنة إلى رغبة مشغليها، وعملت على انتزاع شعلة الثورة في مناطق نفوذها، ليحل مكانها اتفاقات آستانة، وما هو في سياقها أو على ذات المقاس «خفض التصعيد» القابلة للتطوير لتصبح مناطق خاضعة للنظام وقابلة لتسوية تحت مسمى «المصالحات المحلية»، كما حدث في الغوطتين الشرقية والغربية، وريف حمص، واليوم في درعا، وغداً في إدلب.

قد تستطيع درعا الصمود لبعض الوقت في وجه الحملة الحالية الشرسة، ولكن ثمة تساؤلات لا مهرب منها من مثل: ما هو ثمن هذا الصمود؟ وهل تملك الفصائل القدرة على تحمل مسؤولية ما ستؤول إليه الأمور بعد هذه المعركة التي تقودها روسيا وبمشاركة إيران والنظام؟ وهنا علينا ألا نتجاهل أن هذه المعركة تأتي وسط صمت دولي يرقى إلى مستوى الشبهات بالموافقة، بل والدفع إلى إنهاء ملف الفصائل من الساحة السورية وتوزيعه وفق خيارين: إما شرطة محلية تحت السيادة الروسية في درعا، كما هو حال فصائل الشمال التي استسلمت للسيادة التركية في إدلب وريف حلب، أو اندماج جزئي أو كلي مع جيش النظام، الذي عقد صفقات متتالية، وعلى أكثر من محور، لضمان عودة سيطرته على حدود سورية المفيدة، قبل الولوج إلى أي تفاهمات سياسية حول الدستور، والانتخابات، ومصير رأس النظام.

هنا لا يمكن التشكيك بإندفاعة وحماسة الشباب في درعا لحماية ما يعتقدون أنه «إنجازهم المبكر»، في رفع يد النظام السوري عن مناطقهم، وعن المعبر الرئيس مع الأردن، لكن هل تكفي الحماسة في وقت يعلن الضامن الأميركي تخليه عن دوره في ضمانة المنطقة تحت بنود اتفاق خفض التصعيد، المعلن في لقاء رئاسي جمع بين رئيسي قطبي المعادلات الدولية دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في فيتنام؟ وهذا ما يدعو إلى الشك في التفاصيل المعلنة عن الاتفاق الذي جرى في سبتمبر 2017، وقال عنه ترامب «إنه سينقذ عدداً هائلاً من الأرواح» كما أكدت روسيا آنذاك «أنه لا حل عسكرياً في سورية»، فهل جرى فعلياً الانقلاب على بنود الاتفاق؟ أم نحن الآن أمام النسخة الكاملة للاتفاق على رغم سحبه من التداول رسمياً عبر تصريح روسي وتخلي أميركي؟

وفق التصريحات المتضاربة -التي أعقبت الاجتماعات العديدة في الأردن- يمكن التكهن بكثير من الإجابات على أسئلة هي مؤلمة ولكن لا بد من مواجهتها، فعندما يصرح مسؤولون في المعارضة عقب التوقيع أن «الصراع مع النظام انتهى» فهذا يعني أن الاتفاق تضمن ما ينهي وجود الفصائل المسلحة في منطقة الجنوب، أو على الأقل تضمن تغيير وجهة سلاحها بعيداً عن مواجهة النظام، وعندما يصرح النظام أيضاً أن هذه الاتفاقيات لفترات محددة ثم ستعود إلى الانطواء تحت هيمنته، فهذا يدلل على أن الفصائل المنخرطة في الالتزام بالاتفاق تدرك موعد انتهاء دورها الوظيفي كفصائل متحاربة مع النظام، وهي بذلك أمام خيار المصالحة، أو بلغة دبلوماســـية أمام خيار التسوية، أو المصالحة الوطنية حسب تعبير النظام.

إذاً ما يحدث لا يمثل مفاجأة للطرفين المشاركين في اجتماعات ما قبل التوقيع على اتفاق خفض التصعيد، كما لا يمثل مفاجأة لأي مراقب خارجي -وليس شريك كحال الفصائل- لمصير مناطق خفض التصعيد التي تتشارك فيها روسيا كعامل مشترك مع الولايات المتحدة من جهة، أو مع تركيا من جهة ثانية، أو سابقاً مع مصر في الغوطة، فحيث استثمر النظام الوقت في إعادة بناء خطته الهجومية مع داعميه ضد هذه المناطق مدناً وساكنين وفصائل، بقيت هذه الفصائل تعيش حالة الوهم في حماية الضامنين لها، ولم تعتبر من السقوط المتتالي للمدن والبلدات التي كانت تتوهم حماية المجتمع الدولي لها الضامنين لاتفاقياتها، وبينما يدفع النظام المجتمع الدولي إلى الاستدارة نحوه كضامن لمصالحهم في الجنوب السوري، وعلى الحدود مع كل من الأردن وإسرائيل، تكرر المعارضة بشقيها العسكري والسياسي أخطاءها في الاصطفاف خلف داعميها، ومشاريعهم التي تتقاطع مع مصالحهم كدول إقليمية، ومجاورة، مع الحليفين الروسي والأميركي، على حساب المصلحة السورية وأهداف الثورة.

نحن اليوم أمام مشهد نهاياته ليست مغلقة بالكامل، كما أنها ليست مفتوحة على مقاس تطلعاتنا الرومنسية، بل هي سيناريوهات تحقق معادلة واحدة في نهاية المطاف، تحصين و «تسوير» الفوضى السورية داخل حدود سورية أولاً، وهذا ما سيعبر عنه الدستور الذي ستصوغه اللجنة الدستورية التي يسعى إلى تأسيسها المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا، أي نزع فتيل الخلافات بين الدول المتصارعة على سورية لمصلحة التوافقات فيما بينها، وهذا ما يبرر التقارب الروسي- التركي، والتقارب الأميركي- التركي،ومغازلات إسرائيل للنظام، ورسائل إيران لإسرائيل، ما يعني أن مهمة القوى الحليفة لكل الأطراف المتصارعة على سورية ايجاد آلية لضمان الحدود المحيطة بسورية خالية من الفوضى والحركات المتطرفة وإيران.

ولهذ تركت الولايات المتحدة ملف رسم مايجري داخل الحدود السورية لتفاهمات روسيا مع كل من اسرائيل والأردن وتركيا ولبنان والعراق وحتى السوريين الكرد،ومن ضمن مهامها إخراج إيران من المناطق المحظورة عليها أميركيا وإسرائيلياً، مقابل استعادة بسط سيطرة النظام على سورية المفيدة كمرحلة أولى، قبل أن يصار إلى انتزاع ما تبقى من تحت سيطرة تركيا والأكراد.

معركة درعا جزء أساسي، وليس تفصيليا في السيناريو الروسي الأميركي لإنهاء الصراع في سورية، على أساس التسويات المجحفة بحق الشعب السوري، فهي تريد من خلالها إنهاء ملف الفصائل المسلحة المعارضة، وترويض الكيانات السياسية لإدماجها في حكومة مشتركة مع النظام تلغي فيها مرجعية جنيف 1 وأحلام الانتقال السياسي، ما يفسر المقاومة العنيفة من أهالي حوران، وتضحياتهم الكبيرة، مقابل الحفاظ على موطئ قدم في الحالة الوجودية لثورة شعب تشعبت تسمياتها ومآلاتها وكثر تجارها من سياسيين ومسلحين.

* كاتبة سورية