سمير عطا الله

قُلنا إذن، إن يوسف الخال انتقى في حملته على التقليديين أشهر نماذجهم في لبنان، سعيد عقل. ومن سعيد عقل انتقى أجمل وأشهر قصائده، ربما تشديداً على التحدي الذي يقصده. يقول عقل في قصيدته «رندلى»:

ألعينيك تأنى وخطر يفرش الضوءَ على التل القمر 
ضاحكاً للغصن مرتاحاً إلى ضفة النهر رفيقاً بالحجر
علّ عينيك إذا آنستا أثراً منه عرى الليل خدر
ضوؤه إما تلفتِّ دَدٌ ورياحين فرادى وزمر
يغلب النسرين والفل عسى تطمئنين إلى عطر ندر
من ترى أنت إذا بحتِ بما خبأت عيناك من سر القدر؟
حلمُ أي الجن؟ يا أغنية عاش من وعدٍ بها سحر الوتر
... وهكذا إلى آخر القصيدة. وهاكم ما قاله عمر بن أبي ربيعة منذ نحو ألف وثلاثمائة سنة: 
هيّج القلبَ مغانٍ وصِيَر دارسات قد علاهن الشجر
ظَلْت فيها ذات يومٍ واقفاً أسأل المنزل: هل فيه خبر
للتي قالت لأتراب لها قطف فيهنّ أنس وخفر
إذ تمشين بجو مؤنق نيّر النبت تغشاه الزهر
قد خلونا فتمنين بنا إذ خلونا اليوم نبدي ما نُسر
فعرفنا الشوق في مقلتها وحباب الشوق يبديه النظر
قلن يسترضينها: منيتنا لو أتانا اليوم في سرٍّ عمر؟
بينما يذكرنني أبصرنني دون قيد الميل يعدو بي الأغر
قالت الكبرى: أتعرفن الفتى؟ قالت الوسطى: نعم هذا عمر
قالت الصغرى: وقد تيمتها قد عرفناه وهل يخفى القمر؟

يتساءل يوسف الخال بعد إثبات المقارنة: «هل هنالك ما يمنع أن تكون قصيدة سعيد عقل من نظمِ شاعرٍ عاش في أي عصرٍ قبل هذا العصر»؟ ويمضي إلى القول: «وهذا من الأدلة على أن العقل في لبنان، وبالتالي الحياة اللبنانية - كالعقل العربي والحياة العربية عموماً - لم تتغير إلا في الظاهر. فالفن، كالأدب، يعبّر عن الحياة التي هي وليدة العقل. وما دام العقل في لبنان غارقاً بعد في الرومانسية الوجدانية والعاطفية والطبيعية قابعاً في ظلام الشكلية والبدائية والباطنية، خائفاً واجفاً من مجابهة نفسه واتخاذ قراره الحاسم، فيما كان وما هو عليه وما ينبغي أن يكون - ما دام العقل في لبنان هكذا، فمن العبث الادعاء بأن له شعراً حديثاً بالقياس إلى تراثه الشعري القديم».
عاشت معركة الشعر الحديث مع مجلة «شعر» ويوسف الخال وانتهت معها. وانكفأ منذ ذلك الوقت الشعر في جميع ألوانه وأشكاله، خصوصاً بعد غياب نزار ومحمود درويش. وتراجعت بالتالي حركة النقد الشعري، وكما في العالم أجمع سيطرت الرواية كفنٍ أدبي تعاظم شأنه في بلادنا بعد مضي سنين طويلة على انبعاثه العظيم في دول أخرى مثل روسيا وفرنسا.