فاروق جويدة 

لابد أن نعترف بأنه لا توجد مدينة فاضلة فى دنيا الواقع, وان هذا الحلم لم يتجاوز أوراقا سطرها أفلاطون الفيلسوف الحالم فى جمهوريته العتيقة فى يوم من الأيام فقد رسمها فى خياله, وأصبحت من عجائب الفكر السبع ولأن المدينة الفاضلة بقيت مجرد حلم على الأوراق كاد البشر أن يعترفوا بأن الشئ المقابل للفضيلة هو الفساد..

ولأن حلم الفضيلة تراجع وتهمش وربما تلاشى أصبح الفساد صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى حياة البشر.. صديقى الرجل الشريف الذى تولى أعلى المناصب ويجلس الآن وحيدا وسط أبنائه وهو عاجز عن أن يوفر لهم سكنا أو زوجة أو عملا مثل أولاد الأكابر يواجه نفسه بهذا السؤال: لماذا لم اسرق وكان المال يجرى بين يدى من كل مكان، وحين يقابل أبنائى بالصدفة أبناء زملائى الكبار الذين نهبوا أموال هذا الشعب يسألون لماذا لم تسرق يا أبانا كما سرق رفاق مشوارك ووفروا الأموال لأبنائهم ولا تقل لنا انه الحلال والحرام لأنك تعيش فى مجتمع لم يعد يؤمن بشئ اسمه الحلال .. للأسف الشديد صديقى الرجل الشريف لا يجد إجابة للأبناء الساخطين .. هذا السؤال من الأبناء يتردد فى بيوت حتى ولو كانت قليلة بينما تنشر الصحف ووسائل الإعلام كل يوم قصصا جديدة عن هذا الميراث الطويل من الفساد، ويكون السؤال الأهم كيف تحول الفساد إلى ميراث طويل لأجيال بعد أجيال وتحول إلى كارثة اجتماعية وأخلاقية تطارد كل القيم والقوانين.. ويكون السؤال كيف كبرت أوكار الفساد وتشعبت وتسللت إلى مواقع كثيرة فى ظاهرة لم تحدث من قبل على الأقل فى الماضى القريب.. إن الجرائم التى يصل إليها جهاز الرقابة الإدارية، وهو جهاز وحيد، تؤكد أننا أمام ظاهرة ليست مجرد أخطاء أو حالات فردية أن يضرب الفساد كل المنظومة الاجتماعية من الوزراء إلى المديرين إلى الخفراء وصغار الموظفين..

< هل السبب فى ذلك هو غياب منظومة العدالة فى المجتمع وتحول الناس إلى عصابات مشروعة فى المناصب والأدوار بحيث أصبح الإنسان يتصور أن هناك مجتمعا حرمه من حقوقه المشروعة وإن انتزاع الحق حتى لو خالف كل شئ يعتبر حقا أمام العدالة الغائبة والقوانين التى منحناها أجازة أمام سلطة جائرة ونفوس ضعيفة .. هل فتح غياب العدالة أبوابا للتجاوزات أمام أناس تصوروا أن من حقهم أن يسرقوا وينهبوا ويتحايلوا على مجتمع يحرمهم من ابسط الحقوق؟!..

< هل السبب فى انتشار أوكار الفساد هو التربية فى الأسرة والمدرسة والشارع والعمل وغياب القدوة أمام فساد الضمائر وضعف النفوس هل هو نموذج الأب الذى تلاشى والأم التى لا يراها الأبناء وقصص الجار الحرامى والزميل اللص.. وكيف تغيرت موازين الحياة والبشر وأصبح المال سلطانا على الجميع ولا يعنى هل هو مال حرام أم جاء من وسائل غير مشروعة .. لا احد الآن يشير إلى النموذج السيئ ويقول إن هذا شخص منحرف أو فاسد أو حرامى اسمع دعوات المودعين خلف رجل مات يترحمون عليه «كان رجلا شريفا» أى أن الشرف هو الاستثناء واللصوص هم الأغلبية والقاعدة..

< هل السبب ما أطلقنا عليه يوما الزواج الباطل بين السلطة ورأس المال، فى يوم من الأيام كان الوزير يدخل الوزارة ويبيع فى المنصب كل ما يملك لكى ينفق عليه وما أكثر الوزراء الذين دخلوا الوزارة أثرياء وخرجوا منها فى صفوف الفقراء بعد أن أنفقوا كل ما لديهم على المنصب، والآن يدخل الوزارة الإنسان لا يملك شيئا ويخرج منها بالملايين ولا يجد أحدا يسأله من أين لك هذا لأن السؤال إذا كان ضروريا فلابد أن يشمل الجميع من أين لكم هذا.. إن زواج السلطة ورأس المال جعل مال الشعب حقا لهما معا وأصبح المسئول يتصرف كأنه صاحب المال وليس أمينا عليه وهنا حدثت الشراكة بين مسئول بلا ضمير وصاحب رأس مال يبحث عن المزيد من الثراء..

< هل السبب فى انتشار الفساد هو غياب الرقابة وهو يعنى بالضرورة غياب الحساب؟! كنا نسمع كل يوم لسنوات طويلة عن تلال الأموال التى نُهبت والصفقات التى تمت حتى إن بعض المسئولين كانوا يفتحون مكاتب لتخليص الصفقات أمام أعين الدولة كلها ابتداء ببيع الوظائف والكليات وحتى قرارات العلاج للمرضى.. وكانت هناك مؤسسات للاستيراد والتصدير وتوزيع السلع والأراضى وشقق الوزارات وكلها توزع علانية والجميع شركاء .. من هنا تكونت الثروات وتسللت أوكار الفساد وأصبح حقا ثم أصبح ميراثا ثم صار ظواهر ثابتة لها حراسها ومن يديرها بل أن هناك عصابات معروفة فى الاستيراد وظهرت إمبراطوريات القمح والسكر والشاى والزيوت والأراضى والوظائف وأصبح نهب المال العام حقا لجهات ثابتة .. فى ظل غياب الرقابة غاب الحساب وحصل القانون على إجازة طويلة وامتدت أجيالا بعد أجيال وكما ورث الأبناء المال الحرام ورثوا أسلوب الحياة ووسائل النصب والتحايل وأخذوا صدارة المجتمع فى كل شئ بالمال والمناصب والنفوذ..

< اختلت تماما منظومة القيم والثوابت على المستوى الاجتماعى والأخلاقى ولم تعد هناك مسافة أخلاقية بين الحرام والحلال وتداخلت الأشياء أمام غياب الضمير واستباحة الحقوق وانتشار الظلم بكل ألوانه ومصادره .. ورغم المد الدينى الرهيب فى العبادات وظواهرها إلا أن الجانب الآخر وهو المعاملات وهو جوهر الدين تراجع كثيرا فى حياة الناس ابتداء بقتل الأبناء للأباء وجرائم الاغتصاب والسرقة وقد ترك ذلك كله أثرا على وجه الحياة الذى انعكس بصورة دامية على الواقع الاجتماعى والأخلاقى .. هناك ازدواجية غريبة انتشرت فى حياة الناس إيمان شكلى يهتم بالمظاهر وسلوك منحرف يتخفى فى تدين كاذب أو أخلاق زائفة ولكن الحقائق تقول إننا مجتمع يعانى انفصاما فى كل شئ، ولم يكن غريبا أن يجد الحرام مساحة اكبر كثيرا من مساحة الحلال فى سلوكيات الناس وحياتهم..

< لا يستطيع احد أن يتجاهل قضية الفقر والحاجة، هناك إنسان ثرى أو مسئول كبير يسرق لكى تتكدس الملايين فى حساباته وفى المقابل هناك إنسان فقير بسيط يرتكب جريمة من اجل الطعام .. حين تختل منظومة الحياة ولا يجد الإنسان ما يوفر له احتياجاته الأساسية فإن ذلك يفتح للفساد بكل ألوانه ألف باب .. إن الفساد ليس قاصرا على مال يسرق ولكنه يجمع الكثير من الجرائم التى تشوه وجه الحياة وأخلاق البشر.. قد يكون السؤال «وما هو الحل»؟

< لا شك أن الرقابة على أموال الشعب وحمايتها جزء من هذا الحل وهو مسئولية الدولة وأجهزتها ومؤسساتها ولكن الأزمة الحقيقية أن يصل الخلل إلى هذه الأجهزة ويصبح الفساد فيها من أهم أسباب الأزمة وهنا لابد أن تجتمع الرقابة مع الحساب وأن تكون الدولة جادة وحريصة على هذا الحساب، إن كثيراً من جرائم الكسب غير المشروع تمت تسويتها فى ظل قوانين جديدة للتصالح لم تتوافر فيها شروط الشفافية المطلوبة كما أن العدالة بطيئة للغاية وقليلا ما أعادت أموال الشعب والأجهزة الرقابية نفسها تملك إمكانيات محدودة فى الحركة والقرار والجدية ومن هنا لابد من منح هذه الأجهزة سلطات حقيقية لمواجهة الفساد بالحسم والجدية والشفافية..

< لابد أن نعترف بأن الفساد قد تحول إلى ميراث طويل فى مؤسسات الدولة أمام الإهمال والتسيب, ولابد أن يتوافر عنصر الوقت لأنها معركة ضد مصالح قديمة وعلاقات مشبوهة قامت على تاريخ طويل من التحايل كما أن تعديل بعض القوانين فى هذه الحالة ضرورة وتأخر العدالة جزء أصيل فى القضية لأن العدالة البطيئة اقصر الطرق إلى الظلم وانتهاك القوانين..

< تبقى بعد ذلك قضية فى غاية الأهمية وهى الدور التربوى والأخلاقى فى مواجهة الفساد وهذا الدور يبدأ فى الأسرة وفى الشارع والمدرسة حتى يصل إلى العمل والوظيفة، إن غياب الأب القدوة والأم النموذج والمدرس الأمين ورئيس العمل الذى يسمع صوت ضميره كل هذه الجوانب تمثل أهمية خاصة فى بناء الإنسان الأخلاق والضمير.. يأتى بعد ذلك دور الدولة وعلاقاتها ببقية أطراف المجتمع إن الدولة ليست فقط مصالح المسئولين فيها ولا ينبغى أن يصل الإنسان إلى منصب أو مسئولية لكى يرى مصالحه ويؤمن مستقبل أبنائه.. إن المجتمع ليس فقط علاقات مالية واقتصادية تحكم حياة الأفراد هناك جوانب أخلاقية وتربوية وهناك أشياء تسمى الضمير والسلوك والقيم والثوابت التى تحدد صورة الحياة ودوافعها..

نأتى فى نهاية المطاف إلى دور الإعلام فى نشر الفساد بل والمشاركة فيه وهذه قضية فى غاية الأهمية أن يتحول دعاة الفضيلة إلى مروجين وشركاء فى ترويج الفساد..

أما المدينة الفاضلة التى تحدث عنها أفلاطون وحلم بها فسوف تبقى حلما للحالمين من البشر حين تختفى حشود الفساد وهذا حلم مؤجل حتى زمن آخر.. الفساد ميراث طويل لأزمنة مضت وهو يشبه الأمراض المستعصية التى تصيب البشر ولكن فى النهاية العلاج ممكن وإنقاذ المريض ليس شيئا مستحيلا.. المهم أن تصدق النوايا وتستيقظ الضمائر.