سمير عطا الله

 كنت أحد مواطني هذا العالم عندما أخذ يعبر أعتاب السعادة. أمم متحدة تعتمر الخوذ الزرقاء وترفع شعار غصن الزيتون، وألمانيا تعود إلى وعيها وفلاسفتها بدل موجة الجنون الرهيب. وفرنسا تفكك استعمارها، وبريطانيا تستعيد أساطيلها من البحار وعليها مواطنو المستعمرات السابقة. وبدل نظام هتلر وموسوليني وهيروهيتو، والحراب الساخطة على البشر، أصبحت تعبر أوروبا، من جانب إلى جانب، من دون تأشيرة، ثم من دون جواز.

كانت أوروبا أعجوبة الكون بعد خمسة قرون من اجتياحات العصبية: سلام جميل بين ألمانيا وفرنسا. وسلام رائع عبر القنال بين فرنسا وبريطانيا. وحتى الجمارك سقطت على الحدود. وحدثت أعجوبة أخرى عندما استطاع هذا العالم أن يستوعب ملياراً و300 مليون بشري من الصين من دون أي حادث. مليار إنسان قفز نصفهم على الأقل إلى الطبقة المتوسطة، ينافسون في الإنتاج وفي الاستهلاك وفي التقدم. واستوعب العالم خروج روسيا من الشيوعية، وخروج الهند من الاشتراكية المتزمتة إلى تقدم مذهل في الاقتصاد والازدهار. لكن موجة المهاجرين غير المسبوقة قطعت فجأة هذه التجربة الكبرى، وتدخل الإنسانية في محنة تشبه المحن التي كانت تسبق الحروب.
أعتذر عن العودة إلى مقال هنا بعنوان «السعة الألمانية» قبل نحو أربع سنين، قلت فيه إن ألمانيا الرحبة سوف تضيق ذات يوم بالضيوف غير المدعوين، وسوف تعود المشاعر العدائية والعنصرية إلى الظهور في معظم أوروبا. وقد حدث ذلك، وحدث أسوأ منه، أي خروج بريطانيا، رمز السماح والانفتاح، من الوحدة الأوروبية إلى عزلة لا سابقة لها. قبل أيام جاءت أنجيلا ميركل إلى عمان وبيروت لتقول لحكومتي البلدين، خذوا ما شئتم من المال، لكن احتفظوا باللاجئين عندكم.
بلدان صغيران ومعوزان يضمان نحو 3 ملايين لاجئ سوري عبروا الحدود مشياً، وليس في البحار. وما زال المزيد منهم يفر من حرب تبدو بلا نهاية.
الدول تغلق أبوابها وحدودها: بريكست في بريطانيا. «أميركا أولاً» في واشنطن. أبواب موصدة في إيطاليا وتشيكيا والمجر واليونان. حروب «استباقية» في دار السلطنة التركية، حيث أبلغ تعبير عن الانعزال والشعبوية التي تلف العالم.