صلاح سالم

يكشف القرار الأميركي بالانسحاب من المجلس العالمي لحقوق الإنسان، بحجة انحياز أعضائه ضد إسرائيل، سلوكاً سياسياً بالغ التهافت، وممارسة مفرطة في الكذب إلى حد إنكار الواقع، الذي تكشف أبسط مقاربة له عن الكيفيات المتعددة التي تهدر بها إسرائيل حق الإنسان العربي الفلسطيني. ولعل آخرها هو ما ارتكبته من جرائم ضد مسيرات العودة الفلسطينية، وما خلفته من شهداء بالعشرات وجرحى بالآلاف.

كما أن القرار نفسه، وما سبقه من قرارات كنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وإحراج الشركاء الأوروبيين بعد الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران بوضعهم في الزاوية والتصويب على مصداقيتهم، إنما يكشف عن مدى ضعف الحساسية الأخلاقية لدى أقوى رجل في العالم، ومن ثم عن أزمة قيادة عالمية، تزداد سفوراً منذ نهاية الحرب الباردة على الأقل، غير أنها بلغت اليوم قدراً من الحدة صار جارحاً لظاهرة السياسة بالمعنى الحديث، أي كظاهرة مدنية تأسست على مثل الحداثة وقيم التنوير، وخضعت لإشراف القانون والتنظيم الدوليين، ولقوة إلهام فكرة العالمية على أرضية النزعة الإنسانية.


بل إن هذا الحضور الزاعق للرئيس الأميركي صار كاشفاً عن إمكانية، ولو ظلت بعيدة، لعودة العلاقات الدولية إلى حالة الطبيعة، الأقرب إلى حرب الجميع ضد الجميع.

لقد شهد التاريخ السياسي مراراً قادة طرحوا أنفسهم على العالم بقوة الحالة الطبيعية، مثلما كان الأمر منذ عصر القبيلة والإقطاع العسكري والإمبراطوريات عابرة الأقاليم التي سعت إلى التوسع في العالم القديم والتحكم في ما جاورها من مجتمعات، طالما أن عوامل القوة الذاتية كانت قادرة على التمدد والسيطرة. وربما امتلك هؤلاء القادة أفكاراً عن كيفية تنظيم العالم الذي يعيشون فيه مغزى العالم، ولكنها كانت أفكاراً محافظة: دينية أو طائفية أو عرقية، لم يكن القصد منها الإلهام ولكن الإغواء، فالأفكار من هذا الطراز لم تكن أكثر من مجرد غطاء يقوم الحكام بوضعه إما على رؤوسهم كي يبرروا سلطتهم المطلقة أو على سن رماحهم قبل أن يلقوا بها في صدور أعدائهم أو حتى منافسيهم، ليقوم بمهمة التبريد لموتور ماكينة عمليات إنتاج السيطرة والخضوع، أي حفظ وتأمين الأوضاع القائمة وجعلها ممكنة بتكلفة معقولة، على الأقل حتى تتغير قواعدها جذرياً.

أنتــج هــــذا التاريخ، عبر حقبه الطويلة، مستبدين كباراً من فراعنة وقياصرة وخلفاء وملوكاً، كمـــا أنتج مصلحين ومؤسسين وفاتحين كباراً أيضـــاً، أنتج من أسس الدول وعمَّر المدن، ومن خرَّب هذه وأحرق تلك، وعمم الخراب على الجميع. غير أن التخلف التكنولوجي الساحق، قياساً إلى عصرنا الراهن، قد أبقى للموت حدوداً متصورة على رغم قسوته، وللخراب حدوداً محتملة على رغم اتساعها، حيث كانت عضلات المجتمع البشري التي لم تزل رخوة في مستوى حكمة التاريخ التي لم تزل نامية.

وفي الحقبة الحديثة من تاريخنا، حيث تكلست الإمبراطوريات العسكرية، وتهدمت البنى الرعوية، وتفكك الإقطاع، وانتهى زمن نبلاء الإقطاع وأفصاله وأقنانه، وولد من رحمها جميعاً دول وطنية/ قومية صار أهلها مواطنين لا رعايا، ومن ثم ولد الأدب السياسي الحديث ودار الجدل حول دور «الإنتلجنسيا»، تلك الطبقة المثقفة المناضلة القادرة على نشر الوعي الثوري وقيادته. كما ولدت التنظيمات الطلىعية/ الحزبية القادرة على استلام السلطة حال نجاح الثورة كما كان اليعاقبة إبان الثورة الفرنسية، أو البلاشفة إبان الثورة الشيوعية، وصولاً إلى نخب الحكم النازية والفاشية، التي ربما كانت آخر الحماقات الكبرى التي نالت من حكمة تاريخنا.

في هذا السياق، بدت النزعة العالمية ممكنة، والنظام العالمي حقيقة نامية، واستحال التنظيم والقانون الدوليان حقائق راسخة، صارت تسابق في مسيرة صنع الحكمة التاريخية تلك المسيرة الموازية أو المضادة في تنمية عضلات القوة التكنولوجية والصناعة العسكرية، بل إن لحظة الذروة في عبث عضلات القوة بالمصير الإنساني إبان الحرب العالمية الثانية، هي نفسها اللحظة التي ولد من رحمها التنظيم الدولي الأكثر تعبيراً عن حكمة التاريخ وعن مثل السلام الدائم في التنوير الكانطي، أي هيئة الأمم المتحدة، ومن توابعها المجلس العالمي لحقوق الإنسان.

غير أن نهاية الحرب الباردة وغياب الصراع الكبير «الإيديولوجي» حول نظام العالم، وما يستثيره من جسارة ومثالية وخيال، أفضت إلى ترك المجال واسعاً والفضاء رحباً للصراعات «الصغيرة» حول الحسابات المادية والمشاكل التقنية من قبيل كيفية إشباع الرغبات المحمومة للمستهلكين، خصوصاً وقد توارت التيارات المناهضة للرأسمالية بعد هزيمة الشيوعية، وتحول اليسار الأوروبي عن أحلامه الكبيرة في تغيير مجتمعاته نحو قيم العدالة والإنصاف، وتواضع مطالباته على نحو جعله نفعياً وعملياً يمارس السياسة فقط باسم الواقعية. وأخيراً ذبول اليسار (الثقافي) وانطواؤه على نفسه، وبالذات مع أفول مدرسة فرانكفورت برحيل المؤسسين الكبار خصوصاً أدورنو وهوركهايمر وماركوزا، حتى بدا يورغن هابرماس، من الجيل الثاني لها، عصفوراً وحيداً لا يصنع ربيعاً حقيقياً. ومن ثم بدا العالم فقيراً حقاً، حيث انتهى عصر الأفكار الكبيرة وفتح الباب أمام صعود الأصوليات الدىنية، ومع انكفاء الجيش الأحمر والتحدي السوفياتي ولد تنظيم «القاعدة»، وبدلاً من عصر الحروب النظامية الكبرى سادت تكتيكات حرب العصابات بدءاً من أفغانستان ضمن الصراع الكبير وصولاً إلى «داعش» في العراق على أنقاض الصراع الكبير وفي خضم الصراعات الصغرى.

وفي موازاة العولمة الرأسمالية تعولمت الظاهرة الإرهابية، وبديلاً من ستالىن المرعب كان هناك بن لادن العبثي.

واليوم نجد كيف أن النظام العالمي بات أسيراً لقادة دون مستوى تحدياته، لم تعد الأفكار الكبرى تلهمهم في أغلب الأحوال، خصوصاً رجل مثل دونالد ترامب، العالم لديه أقرب إلى مسطح كبير لا يعدو أن يكون حاصل ضرب طوله في عرضه، سلك في طريقه إلى السلطة وفي ممارسته لها منوال عقل غريزي يقوم بأفعال شرطية تنتمي إلى عالم الذهن والدماغ المحكوم بالأفعال الشرطية بأكثر مما تنتمي إلى عالم العقل والوعي المحكوم بالفكر الإنساني. رجل يري في نفسه شجاعة أكبر من سابقيه عندما يتمكن من الدوس على كل ما هو رمزي وأخلاقي، طالما كان ذلك ممكناً لا تردعه عنه قوة صلبة، ولا يحول دونه أدنى رغبة في التسامي أو حتى أي شعور بالحرج.