علي نون

لا يحتاج منطق بقايا السلطة الأسدية إلى مزيد من التسفيه.. لكنه في قضية النازحين الهاربين إلى لبنان يرفع درجة تهتّكه في وجوه حلفائه قبل أعدائه، ويُشهر أمامهم قبل غيرهم مدوّنة سلوكياته التي تُدينهم بقدر ما تُدينه في كل حال.

وهم يعرفون مثلما هو يعرف، أن شمّاعة محاربة الإرهاب حَمَلت كل تزوير وافتراء ممكنين في حق عموم الأكثرية العربية السورية. وأن الأمر في بدايته ومساره وختامه، كان ولا يزال لعبة مزدوجة سلطوية ونفوذية: البقايا الأسدية فعلت كل شيء ممكن ومستحيل من أجل محاولة البقاء في موقع الإمساك بسوريا ومقدراتها. ونظام طهران، أكثر من الحليف الروسي، فعل كل شيء ممكن ومستحيل، من أجل ضمان عدم ضياع استثماراته الكبيرة في «القطر الشقيق».

وفي ذلك، أن الطرفين قاتلا وحاربا ونكّلا بالبيئة الأكثرية الحاضنة للمعارضة المسلّحة! ولم يتوقفا قليلاً أو كثيراً، أمام ضراوة النكبة والأثمان البشرية والعمرانية.. ووجدا في طلاسم الإرهاب المتأسلم كل الأجوبة الممكنة! وكل التبريرات المطلوبة، وكل الحجب السميكة (والرقيقة!) التي تغطي الارتكابات المشينة والمخزية التي طالت ملايين السوريين وهشّمت في طريقها قيم الأنسنة وموروثات وتراكمات الأبعاد الأخلاقية والسياسية (والعاطفية!) للنزاع المفتوح مع الإسرائيليين.. عدا عن تهشيمها مفهوم «الأمّة» إسلامياً وقومياً ووطنياً!

بشّار الأسد عامَلَ ويُعامل كلّ مُعارض باعتباره «عدواً»! وحليفه الإيراني فعَلَ مثله وزَادَ على ذلك جرعة مُضافة من البُعد المذهبي الصافي، ولا يزال إلى الآن يندب مَن سقط من أتباعه باعتبارهم «شهداء المراقد المقدّسة»! وفي هذه الحسبة المزدوجة (الأسدية والإيرانية) تؤخذ الأكثرية السورية المنكوبة بكلّيتها وليس بغير ذلك! ولا تفريق إزاءها بين بضعة آلاف مقاتل معارض وبضعة ملايين مدني جاهروا سلمياً بحقهم في بلادهم وخيراتها وسلطاتها ومؤسساتها! وطالبوا ببديهيات الكرامة والحرية والخبز بعد أن أفقدهم إيّاها النظام الفئوي الحزبي الأُسري الأمني على مدى نحو خمسة عقود من قيامه وتحكّمه!

تلطى الثنائي الأسدي – الإيراني خلف حجاب الإرهاب لتعديل الديموغرافيا السورية. ونَسَخَ الأداء الصهيوني مع الفلسطينيين و«طوّره»! ونفّذه بهمّة الضواري والكواسر معتمداً سياسة الأرض المحروقة بتفاصيلها البرلينية! والتطهير العرقي بتفاصيله المرّعبة بما فيها الكيماوي والغازات السامّة!.. والقانون رقم عشرة!

على أن المُستجدّ الراهن هو بروز شبهة اختلاف بين الحليفين «الممانعين»: البقايا الأسدية لا تريد عودة أحد! فالأرض «لمن حرّرها» على قولة كبيرها والناطق باسمها.. والحرب لم تنتهِ! ومن عدّتها إرباك الجوار وجوار الجوار بدفق النازحين والمهجّرين، في موازاة الدفع نحو إرباك آخر هو دفق العمليات الإرهابية التي لم تستهدف في خلاصاتها إلا الدول والمجتمعات والسياسات المتعاطفة مع «ثورة» السوريين، أو المطالبة بشيء من العدالة لهم!

لكن عند «حزب الله» في لبنان (على ما يبدو!) بعض الحسابات «الوطنية» التي تفرضها ضرورات حفظ «الاستقرار» الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والمالي، بانتظار شيء آخر معاكس تفرضه ضرورات (وأولوية) التحالف مع نظام طهران.. وتلك الحسابات تقضي بالتخفيف من وطأة النزوح السوري على الداخل اللبناني ولو نسبياً! من خلال العمل على إعادة بضعة آلاف نازح إلى مناطق محدّدة.. مدمّرة وخارجة من جغرافيا القتال في كل حال!

في هذه الجزئية يبدو الأسد في مكان وأتباع إيران في مكان آخر.. لكن دلالتها أكبر من حجمها، حيث أنّ التابع الدمشقي صار يجد نفسه «أقوى» مما كان عليه سابقاً وأقدر على معارضة حُماته و«رؤسائه» الإيرانيين منهم، طالما أن الدائرة تدور عليهم هذه الأيام! وطالما أن «الرئيس الأعلى» أي صاحب القرار الروسي لا يزال سيّد اللعبة والمقام!

بشّار الأسد الذي أخذ كل شيء من حلفائه وأتباعه (اللبنانيين!) بما في ذلك خيرة شبابهم، يبخل عليهم حتى بعطيّة جزئية تتعلق بإعادة بضعة آلاف نازح! ويتعامل معهم بفوقية مَرَضية! ويزدري هواجسهم ومخاوفهم ومحاولات ضمان دوام استقرارهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي! بل تراه يقول لهم، إن ما دفعوه من أجله هو «واجب» عليهم لا يستحق الشكر والامتنان.. وبالتأكيد لا يستحق أي أثمان مقابلة!

أم تراهم «حلفاء» يليقون ببعضهم البعض؟! ويستحقّون بعضهم بعضا؟!.. نعيماً!