عبدالحق عزوزي 

لا غرو إن أضحت البيئة الدولية المعاصرة أكثر ضبابية وتعقيداً وغموضاً من أي وقت مضى، «فوهن القوة» هو الطابع الذي يمكن أن نصف به هاته المرحلة الحاسمة من تاريخ البشرية، فالقوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت أكثر من معنى مع ازدياد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة.. ولم تعد بعض الدول القوية، كالولايات المتحدة الأميركية، تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي، بل وحتى الثقافي.. كما كانت في السابق. كما أن المواطَنة العالمية بدأت تتغير معالمها ولم تعد المصلحة العامة تطغى في سياسات بعض كبار الفاعلين في النظام العالمي الجديد، وتكفي الإشارة إلى انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ وآثار ذلك على التعاون الدولي وعلى مستقبل الاتفاقية بأسرها، كما أن هاته المواطنة التي تنظر إلى مصالحها الأنانية دولياً، بدأت تتقلص قواعدها حتى قطْريا. ولعل أفضل مثال ذكرناه مراراً في هذه الصحيفة الغرّاء هو مثال إسبانيا، فقد يظن ظان أن الدولة المركزية عندما تدخلت لإيقاف مسلسل الانفصال في إقليم كاتالونيا، قد أوقفت هذا الفيروس المجتمعي. لا أظن ذلك؛ فالمشكلة أولاً وقبل كل شيء هي مشكلة مواطَنة قبل أن تكون مشكلة سياسية أو اقتصادية.

كما أن مواضيع مثل الهجرة أضحت من المشاكل الأوروبية والأميركية المستعصية، إذ تتداخل فيها عوامل السيادة والاقتصاد والاندماج واللجوء السياسي والانتخابات وبروز الأحزاب اليمينية وكراهة الأجانب. كما أن كل أولئك الذين ينادون «بأنسنة» المشكلة عن طريق بعض الحلول التي تفيد الجميع، كضرورة عدم جعل المهاجرين رهائن لسياسة أمنية وسياسة لمحاربة الإسلاموية تم تبنيها في حوض المتوسط، وكضرورة عدم الخلط بين الهجرة والإرهاب والمخدرات والجريمة، وذلك بفضل دمقرطة التنقل عبر الحدود لأكبر عدد ممكن، لم تعد نسمع أصواتهم خاصة بعد وصول أحزاب متطرفة إلى سدة الحكم، فرأينا في الأسابيع الأخيرة الاجتماعات اللامسبوقة بين مسؤولي الاتحاد الأوروبي حول موضوع الهجرة، ولعل آخرها قمة قادته الذين دخلوا في محادثات شاقة استمرت طوال ليل الخميس إلى الجمعة الماضي في بروكسل. وكانت إيطاليا قد أعاقت التوصل لاتفاق، مشترطةً على شركائها الأوروبيين الالتزام ببعض المطالب. وأشاد رئيس وزرائها جوزيبي كونتي بالاتفاق مؤكداً أن بلاده «لم تعد بمفردها»، كما اعتبره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «انتصاراً للتعاون الأوروبي‏»‬.

وقد اتفق القادة الأوروبيون على إمكانية إنشاء منصات وصول في بلدان خارج الاتحاد الأوروبي بموافقة المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، وهذا البند يجنب الخلافات حول تحمل أعباء السفن، رغم أنه يخالف أبجديات قواعد القانون الدولي، وهو ما يثير عشرات الأسئلة حول مدى جدية الدول الغربية في احترام القواعد والأعراف الدولية، ناهيك عن احترام حقوق الإنسان والحريات العامة. وفي الجهة الأخرى من العالم، وبالضبط في الولايات المتحدة، تجمَّع آلاف الأشخاص في الأيام الأخيرة أمام البيت الأبيض وعدة ولايات أميركية أخرى مطالبين بلم شمل فوري للأسر المهاجرة. ويأتي هذا التحرك بعد أن أرسى الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مطلع مايو سياسة عدم التسامح مع عبور الحدود الأميركية بشكل غير قانوني، نجم عنها فصل 2300 طفل عن عائلاتهم. وفي تراجع نادر عن مواقفه، تخلى ترامب عن هذا الإجراء بتوقيع مرسوم رئاسي يجيز حبس الأطفال مع أهلهم.

وفي خضم الجدل داخل المجتمع الأميركي حول الموضوع، وفي سابقة من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة، تم توقيف أكثر من 500 امرأة شاركن في تظاهرة في مبنى الكابيتول احتجاجاً على سياسة الرئيس حول الهجرة، وبينهن عضو في الكونغرس هي براميلا جايابال. ‬كما ‬تم ‬توقيف ‬الممثلة ‬المشهورة ‬سوزان ‬ساراندون، ‬والتي كتبت ‬على ‬صفحتها ‬في ‬الفيسبوك: «‬اعتُقلنا. ‬ابقين ‬قويات. ‬واصلن ‬الكفاح». ‬وأرفقت ‬التغريدة ‬بوسم ‬«نساء ‬يعصين».

والظاهر أن مشكلة الهجرة ستتعقد أكثر فأكثر، وسيعاني المهاجرون من ويلات السياسات الغربية، وبدل أن تصرف مليارات الدولارات الغربية في تنمية دول الجنوب لتشجيع المهاجرين المحتملين على البقاء في بلدانهم، فإنها تصرف في إقامة الحواجز والقيود براً وبحراً، وسيظل مفعولها محدوداً في ظل عولمة الحدود وتفشي ظاهرة تهريب المهاجرين، ووهن الحدود في إطار «القرية العالمية».