ياسر الغسلان

‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬شهد الإعلام الأميركي الأسبوع المنصرم جريمة بحقه بعد أن أقدم أحد الأشخاص على قتل خمس أفراد من موظفي صحيفة «ذا كابيتال» الصادرة في مدينة أنابوليس بولاية ميريلاند القريبة من واشنطن العاصمة، انتقاما من حكم قضائي صدر ضده ولصالح الصحيفة.

الجريمة التي لم توصف في الإعلام الأميركي على أنها إرهاب كما كان متوقعا، نظرا لأن مرتكب الجريمة هو رجل أبيض وليس من أصول عربية أو إسلامية، سلطت الضوء على الدور الذي يلعبه الإعلام الأميركي في المجتمع، لا باعتباره وسيلة ترويجية حزبية أو فكرية فقط، بل باعتباره سلطة مستقلة لها ما لها وعليها ما عليها، فالجميع متساوٍ أمام نظر القانون، فلا فرد بإمكانه أن يفرض سلطانه عليها ولا هي لديها القدرة على الاتهام والتضليل دون أن تدفع الثمن أمام القضاء.
ولكن بعيدا عن هذه الجريمة، نستطيع أن نقول إن الإعلام في أميركا، وإن كان يعاب عليه الروح المغرقة في العدائية تجاه من هم في السلطة، إلا أنه وبفعل دوره الذي يكفله الدستور يعمل على القيام بدور الرقيب الذي لا يهتم إلا باتباع ما تنصه القوانين والدساتير التي كفلت له حرية التعبير والقيام بدور المراقبة، والوصول للمعلومات الحكومية دون أن يكون لأي سلطة حق منعه إلا وفق ما ينصه القانون.
الرئيس ترمب كما هو معلوم لديه خصمان رئيسيان هما الحزب الديمقراطي والإعلام الذي يصفه بشكل مستمر بأنه مضلل، وينعته بوسائل «الأخبار الكاذبة»، وهذا الموقف المتشدد من الرئيس لم يكن ليكون لولا قناعته بأن الإعلام في أميركا يعدّ بالفعل سلطة رابعة، تتساوى قوته وتأثيراته مع باقي السلطات الأخرى في البلاد، كما أن ترمب يرى أن لولا عداء الإعلام له وعدم احترامه له لربما كان اليوم في وضع أفضل من حيث قبول المجتمع الأميركي له، ومن حيث أريحيته في إدارة البلاد وملفاتها المعقدة الداخلية والخارجية.
لا خلاف أن الإعلام الأميركي بصفة عامة مسيس، ليس بالضرورة من منطلقات حزبية كما يتصور البعض، بل من منطلقات فكرية مرتبطة بالحقوق والمبادئ التي بني عليها المجتمع الأميركي، فترمب ومنذ أن أعلن ترشحه وحتى يومنا هذا يعمل على شيطنة أي قوى اجتماعية يمكن لها أن تقلل من مكانته وتحد من سلطاته، والإعلام الأميركي الذي أسقط رؤساء في الماضي، وكشف تلاعب المتنفذين لم يكن ليسمح لأي كائن أن يقلل من هيبة الدور الذي يقوم به في ضبط العمل الحكومي ومراقبة المسؤولين، ففلسفة هذا الإعلام ليست في مدح الرئيس، بل في نقده، ودوره ليس في تسليط الضوء على الإنجازات، بل في كشف مواطن التقصير والإخفاقات.
مشكلة ترمب الرئيسية أنه يأتي من خلفية تجارية، حيث كل من هم حوله يدينون له بالطاعة، والمدح والمجاملة من متطلبات الوظيفة، والولاء ركيزة أساسية في استمرار من يريد أن يعمل معه، بينما نظام السياسة الأميركي مبني على الضوابط والتوازنات الرقابية، فليس هناك سلطة لديها القدرة على المضي بما تريد دون أن تكون هناك سلطة أخرى تراقبها وتحد من إمكانية تنمرها، وسطوها على القرار، والإعلام في ظل التجاذبات الحزبية التي تدور بين الديمقراطيين والجمهوريين، والتي تستعمل الرقابة باعتبارها لعبة سياسية، يأتي ليقوم بدوره بعيدا عن الضغط الحزبي الذي قد تدخل فيه المصالح أو الاتفاقيات السياسية المخالفة للمبادئ.
الإعلام في أميركا هو أقرب لغول يهدد الجميع ويخيف الجميع، وعلى الرغم من أن البعض قد يرى في ذلك أمرا ليس في صالح المجتمع، إلا أنه من الناحية العملية أفضل من إعلام مشلول لا يؤدي دوره الحقيقي في مراقبة المسؤول والتأثير عليه إيجابا لكي يعمل في خدمة الصالح العام، فالطبقة السياسية في أميركا بكل تكويناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية تتشابه في كونها معرضة للانحراف، والإعلام المستقل الذي لا يخضع إلا لسلطة القانون والدستور لديه حرية الحركة في ضبط العملية، وبالتالي فهو في نظر البعض أهم مكونات الديمقراطية الأميركية، والتي بدونها ليست أميركا إلا ديمقراطية كما هي مطبقة في بعض دول العالم النامي.
الحرب على الإعلام في أميركا هي قصة لن تنتهي، وجريمة ذا كابيتال مجرد مثال لشخص أراد أن يسكت الصوت العالي بقوة الرصاص، إلا أن السلاح ليس بالضرورة الوسيلة الوحيدة.