الديموقراطية والتنمية ركيزتان للمستقبل وللشراكة مع العالم

مصطفى الفقي 

على رغم أن التنبؤ في الإنسانيات أمرٌ محفوف بالأخطار، كما أن توقعات المستقبل السياسي ليست دائماً صحيحة، إذ إن العالم يدور حولنا بسرعة واضحة، كما أن عمليات التغيير المستمرة أرست نوعاً من المقارنة الدائمة بين ما نحن فيه، وما يجب أن نكون عليه حتى جنح البعض إلى إحساس مفرط بجلد الذات، بينما جنح البعض الآخر إلى المكابرة ومواصلة التغني بأمجاد الماضي، وكأننا نعيش وحدنا في عالم لا تحيط به الأخطار من كل اتجاه وتتهدد مستقبله في إطار الفضاء العالمي المضطرد، لذلك رأيت أن أرصد في إيجاز المظاهر الواضحة لاستشراف المستقبل ولو بالتقريب، لأن الجزم بالمجهول هو تفكير عبثي لا نسعى إليه، ولعلي أوجز ما أريد قوله في النقاط التالية:

أولاً: يعيش العرب على أرض الديانات والتقاء الثقافات لذلك فإن الميراث التاريخي طويل وثقيل ولدى العرب ركام ضخم من تراكمات العصور واختلاف أنماط الحياة وأساليب الحكم، فليست المنطقة العربية إلا وريثة للفرعونية والآشورية والبابلية والفينيقية حتى التحفت دولها بالعروبة واعتصم معظمهم بارتباط قومي يجعلهم جميعاً أبناء لتركيبة منصهرة تشكلت بهم أمة واحدة من فرط ما لديهم من أسباب التوحد، نجد أن عوامل الاختلاف ومظاهر الصراع تدب في المنطقة على الدوام. ولو أن الدول العربية دول جديدة حديثة النشوء قريبة عهد بمفهوم الدولة ومظاهر السلطة لكان الأمر سهلاً على من يريد، ولكن الوضع العربي مختلف لأنه يضم دولاً ذات ماض بعيد ينعكس عليها من حين إلى آخر سياسة وفكراً وثقافة.

ثانياً: إن ظهور دولة إسرائيل وميلاد الكيان الصهيوني هو تأكيد لإسفين جرى دقه في المنطقة ليقطع التواصل بينها ويمزق أوصال تقدمها ويحول دون علاقة سوية مع دول العالم الأخرى، فضلاً عن استنزاف مواردها وجرها إلى ميادين القتال من حين إلى آخر. كما أن القضية الفلسطينية تمثل نزيفاً مستمراً لا للفلسطينيين وحدهم ولكن للعرب جميعاً. ولم تتمكن الأطراف من الوصول إلى تسوية بسبب تعنت إسرائيل وسياساتها العدوانية وخروجها عن الشرعية الدولية نتيجة الحماية الغربية لها، فضلاً عن الارتباط الوثيق بالولايات المتحدة الأميركية التي تستخدم حق «الفيتو» في مجلس الأمن للحيلولة دون أية إدانة للدولة العبرية.


ثالثاً: إنني أعترف أن قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 قد دفع المنطقة نحو مزيد من التمزق والاضطراب حتى ظهرت بدعة التفرقة بين «الشيعة» و «السنة» وظهرت نيران سياسات معينة في المناطق المختلفة من الوطن العربي. بل امتازت إيران بنفوذها لا على أفريقيا وحدها ولكنها تجاوزت ذلك إلى مناطق أخرى في العالم الإسلامي، وشكلت إيران حالياً خطراً جديداً على منطقة الخليج بعد أن امتد نفوذها إلى لبنان وسورية والعراق واليمن وأصبحنا أمام عملية انتشار واسعة للمد الإيراني في غرب آسيا وشمال أفريقيا وجنوباً حتى منابع النيل، ولست أشك في أن الديبلوماسية الإيرانية تملك أجندة بعيدة وكان من المفترض أن تكون إيران إضافة للقوة العربية وليست خصماً منها.

رابعاً: إن الذين قالوا رب ضارة نافعة لم يكملوا تلك الحكمة ليقولوا رب نافعة تحمل معها أضراراً على المدى الطويل، فالثروة العربية أثارت الأطماع وحركت الشهوات الأجنبية تجاه المنطقة العربية وجعلتها هدفاً للنفوذ الأجنبي والضغط الخارجي وعطلت مسيرة المنطقة نحو التضامن والتوحد، وجعلت التفاوت في مستويات الثروة بين تلك الدول سبباً في خلق الشكوك المتبادلة فضلاً عن الثقة المفقودة بين الأغنياء والفقراء في العالم العربي، وليس يعني ذلك أن النفط العربي يمثل نقمة كاملة، إذ إن الأمر يختلف لو أدركنا أنه قد أسهم في مساعدة أشقاء ومساندة أصدقاء في الأوقات الصعبة وواجه الظروف القاسية لدعم النضال العربي ضد القوى المعادية للتقدم وإرثاء دعائم النهضة.

خامساً: سوف يظل ما سمى «الربيع العربي» لغزاً يختلف حوله المؤرخون ولا يتفق عليه أصحاب الرؤى القومية لأن محصلة ذلك الربيع كانت سلبية إلى حد كبير دفعت الدول العربية ثمنه ضريبة فادحة من مقومات وجودها ومظاهر استقرارها، وليس الأمر كذلك فحسب ولكن «الربيع العربي» أو ما سميناه كذلك قد وسع دائرة السيطرة الأميركية وعزز أمن إسرائيل وفتح الأبواب أمام المد الإيراني فضلاً عما تعاني منه أربع دول عربية أو خمس من ظروف قاسية ومشكلات ظاهرة واضطرابات مستمرة، وعلى رغم أننا لا نؤمن بالتفسير التآمري للتاريخ إلا أننا نعترف بوجود المؤامرة في الحياة عموماً، خصوصاً أن هناك عشرات من علامات الاستفهام المحيطة بأحداث «الربيع العربي» والتي لا نجد لها تفسيراً حتى الآن، فقد دخلت دول عربية كثيرة في اعتصامات وتظاهرات واضطرابات وهذا أضاف حالة من الغموض التي فتحت الباب أمام الإرهاب بكل جرائمه المروعة وآثاره العنيفة على الحياة حيث يضرب على غير هدى في إطار الحصار الأمني المفروض على حركة البشر وتداول الأفكار ومناخ الحريات عموماً، لذلك فإنني مؤمن أن أحداث «الربيع العربي» قد جلبت على المنطقة مشكلات وأزمات وتحديات سوف تستهلك من رصيد هذه الأمة في الحاضر والمستقبل.

سادساً: إن العرب من فرط ما لديهم من مقومات التوحد وعوامل التجانس فضلاً عن التاريخ المشترك والجغرافيا المتقاربة قد أدى بهم هذا الأمر إلى التفريط في عوامل قوتهم وأسباب تضامنهم وتنسيق سياساتهم، ولقد رأينا دول الاتحاد الأوروبي وهي تنتمي إلى قوميات مختلفة وتتحدث لغات متباينة وجدناها تدخل في الاتحاد الأوروبي طواعية وتترك حرية الدخول فيه والخروج منه لإرادة الدول الأوروبية المختلفة كل وفق ظروفه، وقد نجحت التجربة الأوروبية على رغم بعض الإخفاقات إلا أن المقارنة بالمنطقة العربية لا بد أن تشير إلى ضعف قدرة العرب على توحيد كلمتهم وتأكيد مكانتهم في مختلف الأصعدة والميادين فأصبح الإخفاق مقترناً بنا، ولعل آخر مظاهره ما جرى في مونديال كأس العالم لأربع دول عربية خرجت منه بخفي حنين، ونحن نظن أننا على أعتاب مرحلة مختلفة في العلاقات الدولية المعاصرة وهي تقتضي منا صحوة حقيقية وقدرة على التعامل مع معطيات العصر والفهم الدقيق للتحديات التي تواجه مستقبل الإنسانية التي نحن جزء منها سواء على مستوى التغيرات المناخية أو تلوث التربة والأنهار والبحار والفضاء فضلاً عن مشكلات الطاقة وندرة المياه والمعدل المتزايد لعدد سكان الأرض مع الثبات النسبي لبعض الموارد الطبيعية، إننا لا نفكر في المستقبل من دون أن نضع في الاعتبار أن الشراكة الحقيقية في العالم المعاصر تقتضي اقتحام المجالات كافة من دون انزواء أو إقصاء أو تخاذل، ولا مكان في المستقبل لدول تعزل نفسها وتبتعد بإرادتها عن مجريات الأمور لذلك فإننا مطالبون- لكي نتهيأ لزيارة المستقبل- أن نتسلح بالعلوم العصرية والتكنولوجيا المتقدمة والبحث العلمي الدائم حتى نكون قادرين على ولوج طريق المستقبل من دون ركود أو تراجع أو تخلف.

سابعاً: إن الديموقراطية والتنمية ركيزتان يصعب الاستغناء عنهما فالديموقراطية هي الطريق للحرية السياسية والتنمية هي السبيل إلى الحرية الاقتصادية، ويؤسفنا أن نقرر أن هاتين الركيزتين متعثرتان في عالمنا العربي لأسباب ليس هذا مجال الخوض فيها وذلك على رغم وجود بعض الومضات الإصلاحية التي تظهر من حين لآخر، وفي ظني أن الفكاك من التخلف والانصراف نحو المسيرة العصرية ليس أمراً مستحيلاً فقد سبقتنا إليه أمم أخرى هي أحدث منا وليس لديها رصيد حضاري مثل الذي لدينا كما أنها دول لا تملك موارد طبيعية ولا بشرية مثل التي يملكها العرب فلماذا التخلف عن ركب المستقبل إذن؟ إن السبب في ظني يرجع إلى غياب الإرادة السياسية وضعف المشاركة الشعبية وقصور الإحساس بالانتماء للأرض والوطن.

هذه محاور سبعة ذكرناها لكي نتلمس الطريق نحو المستقبل العربي الواعد والخروج من شرنقة الماضي والاتجاه في ثبات نحو دور منتظر لأمة توهمت أنها المقصودة وحدها بقوله تعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس».