رجاء عالم

لشبونة البرتغال، تهبط هذه المدينة كمن يهبط على الحد بين زمنين، أقصى الماضي العريق وأقصى الحداثة، وقبل معاينة المشهد البرتغالي يخيل إليك أن هذا البلد الصغير يرزح في مشكلات اقتصادية شأنه شأن معظم الدول الأوروبية التي تعاني تضخم الديون، لكن الديناميكية التي تقابلك في لشبونة تدفع إلى التقصي لتعلم أن البرتغال قد نجحت في تحقيق معجزة اقتصادية، وذلك في مدة قياسية لم تتجاوز العامين، والمدهش في تجربة البرتغال أنها قد تلقت منذ عامين تعليمات من مجلس الاتحاد الأوروبي في بروكسل، تساعدها على مواجهة مشكلاتها الاقتصادية حينها، ويمكن تلخيص بعض تلك التعليمات في: تقليص الإنفاق العام، خفض الحد الأدنى للأجور، الذي يبلغ 600 يورو شهرياً للفرد، ولكن البرتغال لجأت وبجرأة إلى مخالفة تلك التعليمات، بل العمل عكسها تماماً، فلقد زادت الإنفاق العام على مشروعات عامة، ورفعت الحد الأدنى للأجور ليبلغ 670 يورو شهرياً للفرد. وهذا التصرف غير المسبوق أدى إلى انتعاش غير متوقع في الاقتصاد، حيث استقطبت البرتغال الاستثمارات الدولية، وصارت نقطة جذب سياحي عالمي، وبالتالي زاد الدخل العام، توصلت تقريباً لتسديد كامل ديونها المطلوبة من الاتحاد الأوروبي. معجزة أذهلت الخبراء الدوليين في بروكسل، وقادت إلى نهضة وانتعاش تلمسه في لشبونة خاصة، في تلك المنشآت العامة من الحدائق العامة المترامية والمجهزة بالشلالات ووسائل الترفيه المفتوحة للصغار والكبار، والمرافق الثقافية الحديثة من متاحف ومكتبات عامة، في جو من النظافة المذهلة والصيانة المتجددة للمنشآت، والحماسة الضافية لأعداد السياح المتزايدة، التي تُحيي المدينة، وتضخ سيولة نقدية تعزز المدخول العام.

تتجول في لشبونة ويأخذك نهرها تيجوس للمحيط، يهدهد سلام المدينة وجمالها إيقاعك الداخلي، تقول لك المغامرة الاقتصادية لدولة كالبرتغال: لا تخف وأقدم خارج الأُطر، لا تكف عن المغامرة، كل الطرق تؤدي إلى روما أو إلى المحيط، الحياة تكمن في أن تكتشف دربك الخاص وتسلكه بثقة في الحكمة الإلهية، التي تحركك على ذلك الدرب، الثقة هي التي تسخر لنا المعجزات؛ لأن هناك ما يمكن تسميته «إرادة الانتعاش»، وهي خطوة تفوق إرادة البقاء؛ لأنها تتضمن التصميم على إضافة الألق للبقاء.. إنها إرادة أقرب للاستشهاد، حيث تجعلنا على استعداد لخسارة كل شيء في سبيل هدف نؤمن به.. إنه الانفتاح بجرأة على غول الفشل، فهذه الروح الاستشهادية هي التي ينكسف أمام حيويتها كل فشل، الحيوية التي وقودها عزيمتنا وبذلنا للأقصى. لأن الفشل كما نفهمه في أساسه ما هو إلا وهم، الفشل كما انغرس في وعينا هو أشبه بشروخ في الصورة التي نقدمها عن أنفسنا للآخرين، خوف من الشروخ يشل حرياتنا في التجريب خوضاً فيما يُسمى الفشل والنجاح، رعبنا الفشل وغاية غاياتنا النجاح، بينما النجاح والفشل لا يختلفان عن تعاقب الليل والنهار، لا نهار بلا ليل ولا ليل بلا نهار، كما لا نجاح بلا اقتحام لاحتمالات الخطأ.