محمد السعد

بعد انقطاع طويل في العلاقات التركية - العربية، يعتقد بعض العرب، وبسذاجة كبيرة، أن هذا الاهتمام بالعالم العربي هو تبشير بعودة تركيا إلى حظيرة الإسلام

 منذ أن سقطت الدولة العثمانية، وقامت الجمهورية التركية بزعامة كمال أتاتورك على أنقاضها، أدارت تركيا ظهرها للشرق الأوسط بعد تأسيس الجمهورية، وعاشت عقودا عديدة في عزلة سياسية وثقافية عن العالم العربي والإسلامي.
كانت سياسة أتاتورك الخارجية قائمة على المحافظة على سلامة الجمهورية التركية، عن طريق التشبث بالقومية التركية وتبنيها كمرجعية نهائية للأتراك، مع تجنب دوائر الصراع من حيث الانكفاء على الداخل، والكف عن التطلعات الخارجية ناحية العالم العربي.


يدرك أتاتورك جيدا أن التعلق بالميراث العثماني لم يعد مجديا في لملمة أجزاء الإمبراطورية المندثرة، فقرر أن تفتح الجمهورية الجديدة صفحة جديدة مع العالم عنوانها الأبرز إضفاء الشكل الأوروبي على الجمهورية الناشئة، ولا يزال الالتصاق بالهوية الأوروبية هو عنوان تركيا حتى يومنا هذا.
وبسبب علمانية أتاتورك انسلخت تركيا عن العالم الإسلامي، وهذا ما جعل الدول الغربية ودول الاتحاد الأوروبي ترى أن تركيا ابتعدت عن العالم الإسلامي وغاب تأثيرها عليه بسبب عزلتها عنه، ولهذا السبب كان من الضروري إعادة صياغة مبدأ الجمهورية والعلمانية وإحلال صياغة جديدة «معدلة» محل الصياغة القديمة، ومن خلال هذه الصياغة تستطيع تركيا التوغل من جديد ناحية العالم العربي والإسلامي، وكانت هذه الصياغة المعدلة جزءا من مشروع ضخم يطلق عليه مشروع الشرق الأوسط الكبير.
وحزب العدالة والتنمية هو نتاج هذا المشروع، ومن المعروف أن غراهام فولر، نائب الرئيس السابق لمجلس الاستخبارات الوطني التابع للاستخبارات الأميركية، وأحد خبراء الشرق الأوسط وتركيا، قد وجد أن دعم الأنظمة العلمانية ليس هو الطريق الأفضل في الشرق الأوسط، لأنه يرى أن الأسس التاريخية والثقافية للعلمانية ضعيفة جدا في العالم الإسلامي، لذلك يصر فولر على أن أهم مشاكل تركيا نابعة من الأتاتوركية.


وهذه الرؤية تتفق مع وجهة نظر داود أوغلو الذي يرى أن أنقرة تحتاج إلى فهم سيكولوجي وثقافي متين الأساس للعالم الإسلامي ووجود ثابت فيه، إذا كانت تريد أن تكون قوة إقليمية مؤثرة، وكلاهما يرى أن العلمانية الصارخة التي فرضها أتاتورك ليست هي النموذج الأنسب، بل يجب خلق تركيبة داخلية جديدة بين القيم التقليدية والحديثة.
لذلك وضعت سياسة الإسلام المعتدل، وسيلعب حزب العدالة والتنمية دور البطولة في هذه السياسة عندما يوضع في قلب الشرق الأوسط كحصان طروادة. فهو حزب لا يملك أي أجندة دينية صريحة في برنامجه السياسي، ولكنه يستخدم الدين كذريعة للوصول والحصول على التأييد في العالم الإسلامي.
نلاحظ في السنوات الأخيرة أن تركيا بدأت تظهر اهتماما جديدا بالمنطقة وشعوبها، وتعيد صلاتها بها بعد انقطاع طويل في العلاقات التركية - العربية، ويعتقد بعض العرب، وبسذاجة كبيرة، أن هذا الاهتمام المتنامي بالعالم العربي هو تبشير بعودة تركيا إلى حظيرة الإسلام، وهي نظرة قاصرة للسياسة التركية التي لن تقدم أي خدمة للمسلمين وقضاياهم على حساب روابط تركيا مع الغرب.
فكل ما تؤديه تركيا من أدوار سياسية واقتصادية هو مقابل عضوية الناتو حتى صارت جزءا لا يتجزأ من نظام الأمن الغربي، وأغلب تدخلاتها في المنطقة تصب في صالح ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي الذي يرتبط جملة وتفصيلا بمدى فعالية دور تركيا الإقليمي في الشرق الأوسط.
وجدت السياسة التركية نفسها في قلب التطورات الشرق أوسطية ومعنية مباشرة بما يجري حول حدودها، مما توجب عليها تكييف سياستها الخارجية بصورة تلائم واقعها الجديد، وذلك بهدف تفعيل موقعها في المشروع الشرق أوسطي الجديد المزمع إقامته، ومن أجل الوصول إلى تحقيق هدفها فهي تريد الاستفادة مما تبقى من ميراثها العثماني واستغلال كل تأثير يمكن أن يوفره هذا الميراث، فمشروع الإسلام المعتدل يحتاج لأرضية دينية ليتغذى منها ويكسب من خلالها الشرعية اللازمة.


أشرفت الحكومة التركية على مسلسلات درامية حماسية تحكي أمجاد ومآثر رموز الدولة العثمانية، مثل عثمان أرطغل وعبدالحميد الثاني، وأنفقت عليها الأموال الطائلة وكل هذا في سبيل إحياء التراث العثماني الذي سيكون مرجعية وأيديولوجيا للحكومة التركية في قادم الأيام، لأن الفوائد الإستراتيجية البراجماتية لعمليات الانفتاح على الجيران تتطلب هذه الجهود.
يتحدث داود أوغلو في كتابه «العمق الإستراتيجي» عن الشرق الأوسط، واصفا إياه بالحديقة الخلفية أو الفناء الخلفي، وهو رمانة الميزان في التحالفات والتوازنات الدولية المحيطة، هكذا ينظر حزب العدالة والتنمية للعالم العربي، مجرد حديقة خلفية تقضى من خلالها مصالحها في سبيل الحلم المنشود والفردوس الموعود، وهو الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي.
فكل هذا الاهتمام بالعالم الإسلامي ليس لأن تركيا طلقت الأتاتوركية طلاقا بائنا لا عودة فيه، وقررت التوبة والاغتسال من أدران العلمانية كما يصور لنا، ولكن لأن نظرتها تغيرت تجاه الشرق الأوسط، وهذه النظرة يختصرها داود أوغلو العقل المدبر ومهندس العلاقات الدولية بقوله: «أصبحت السيطرة على الشرق الأوسط خطوة لا بد منها لأي دولة ترغب في السيطرة على العالم».