أحمد الدغرني

 كان ولا يزال ضروريا بالنسبة لكل الناس المتتبعين لحراك الريف منذ أكتوبر 2016 حتى الآن أن يدرسوا المعنى السياسي والسوسيولوجي لموقف إحالة ملف معتقلي حراك الريف على محكمة الجنايات بالدار البيضاء، وفي هذا المقال نتناول هذه الإحالة، ونتائجها، التي كان من أهمها إصدار أحكام قاسية ضد المعتقلين.

ونبدأ بالقول بأن المعنى الأول الذي نقترحه لدراسة نقل الملف من الريف إلى الدار البيضاء هو تقريب الملف إلى المخزن المركزي، في عاصمته الاقتصادية، حيث توجد رأسمالية مخزنية مبنية على استثمارا ت أموال البورجوازية المخزنية، التي تسيطر على أهم المؤسسات والشركات التي تملك سلطة صرف تلك الأموال، وهنا يتضح معنى الأدوار التي لعبتها ثلاثة مرافق متمركزة بالدار البيضاء، وهي:

1-الفرقة الوطنية للشرطة القضائية التي أنجزت البحث الميداني في الريف وكتبت محاضر البحث التي اعتمد عليها قاضي التحقيق والنيابة العامة وهيأة الحكم...

2- سجن عكاشة الذي يسكنه المعتقلون الريفيون ويخوضون بداخله مواصلة الحراك.

3- محكمة الإستئناف الجنائية التي كان يرأس النيابة العامة فيها القاضي لحسن مطر والذي تقاعد قبل صدور الأحكام، والتحق بمهنة المحاماة بسرعة فائقة، ليتم تعيينه مستشارا لرئيس النيابة العامة الذي هو وكيل عام للملك لدى محكمة النقض ولم يحن الوقت لتقييم دور القاضي علي الطرشي الذي ترأس جلسات المحاكمة...

وهذه المرافق مصنفة ضمن قطاع مجتمع البيروقراطية المركزية التي تستمد مرجعيتها الفكرية والعقائدية من هذا الوسط الذي توجد فيه، ونستعين بعلم الاجتماع، ونتذكر قول العالم ألتوسيرAlthusser: "الحقل الأيديولوجي للطبقة المعنية"، ولذلك تعتبر القوانين، والمساطر جزءا غير مهم في موضوع المحاكمة، إذا تذكرنا قول رئيس النيابة العامة عبده النبوي في استجواب صحفي معه: "القاضي هو ابن بيئته"، ونقصد بالضبط تحويل المعتقلين من بيئة الريف إلى بيئة الدار البيضاء، لنعتبرها مؤثرا في صدور الأحكام، وربما وسيلة للتشديد. وهذا يعني أنه أصبحت السياسة الجنائية المرتكزة على نظرية تركيز المحاكمات الكبرى في بيئة مركز النخبة الحاكمة في إحداث قانون الإرهاب الذي ارتكز تطبيقه في الرباط وسلا.

وكانت هذه السياسة قد بدأت في المغرب بتخصيصها بالمحاكم المالية والعسكرية، وأشهرها محاكمة عسكر محاولات الانقلاب التي عرفها المغرب سنة 1971-1972، وملفات محكمة العدل الخاصة.

كما نستعين أيضا من الناحية المنهجية بمقارنة الأحكام التي صدرت بمحاكم الريف كالحسيمة والناضور وتازة ضد معتقلي حراك الريف حيث صدر حوالي 700 حكم إلى حدود تاريخ هذا النص، لم تكن لتبلغ مثل قسوة أحكام الدار البيضاء، وتتطلب منهجية الدراسة المعمقة جمع كل الأحكام الصادرة بالريف، واعتمادها في المقارنة كمنهج لاستخراج نتائج مدعمة بقواعد علم السوسيولوجيا لنكتشف التصور السياسي المؤثر في الحاكمين.

ونعتبر من جهة ثانية أن محاكمة الريفيين عرفت مراحل تاريخية سابقة نصنفها هكذا.

1- محاكمة المعتقلين الريفيين في فترة الحرب مع القوى الأجنبية التي تسمى تاريخيا ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني للريف مابين سنوات 1906 -1926 وتعني هذه الفترة معتقلي الريف الذين اعتقلوا من طرف الجيوش التي احتلت الريف التي طبقت فيها القوانين العسكرية.

2-محاكمة معتقلي ثورة 1958 .

3- محاكمة معتقلي انتفاضة 1984.

ونعتبر بهذا التصنيف التاريخي أن محاكمة الدار البيضاء تأتي في الدرجة الرابعة، من المحاكمات التي مرت بالريف، وهي تتطلب دراسة موسعة نضع في هذا النص مقاربة منهجية لها، لأنها تمتد الى أكثر من مائة عام.

ولم يسبق في المحاكمات الثلاثة السابقة أن جرت خارج الريف، ولكن كانت المحاكمات الثلاثة أسوأ من التي جرت في الدار البيضاء، التي تتميز بتوفر وسائل الإعلام الإلكترونية، والتوثيق بالصور، وكاميرات الفيديو، مما يجعل المحاسبة التاريخية عنها مضمونة للأجيال الحالية والمقبلة، كما تميزت محاكمة الدار البيضاء عن جميع المحاكمات السياسية التي عرفها القضاء المغربي في تاريخه، وهي تنصيب مجموعة لمن يسمون "بمحامي الدولة"،عملوا إلى جانب النيابة العامة على بلورة التصور السياسي والأيديولوجي لوقائع الملف.

ليست محاكمة الريفيين بالدار البيضاء حدثا تكفي فيه مطالبات بعفو يصدر ممن له صلاحية هذا العفو، ولا تنظيم حملات التضامن مع المعتقلين، والمطالبة بإطلاق سراحهم، بل يضاف لها التركيز على الطابع التاريخي لهذه المحاكمة التي ليست ظرفية تمر ويطفئها النسيان، ومواكبتها بدراسات ومناهج ترقى إلى مستواها الذي يمتد في الماضي والمستقبل.