عبداللطيف الضويحي

في عصر أصبح الرأي العام هو منتجُ الثقافة وليست الثقافة منتج الرأي العام، وفي عالم أصبح المشهد اليومي فيه سببا في صناعة القيم وليس نتيجة لها. فإن علينا أن نقرأ جيدا هذه المعادلة.

ومع هذه الفضاءات المفتوحة، إذا لم تكن منتجا أصليا للثقافة فأنت مستهلك لها بإدمان. فهل نحن منتجون للثقافة؟ وهل نحن منتجون أصليون للثقافة؟ في الحقيقة لا أعرف حجم ما ننتجه بدقة أمام ما نستهلكه ثقافيا، لكن الفجوة بالتأكيد كبيرة. إنما المقلق في الموضوع ليس فقط الفارق الثقافي الكمي، وإن ما يدعو للقلق هو الفارق الثقافي النوعي.

يكفي أن نعرف الحسابات اليومية المتصدرة في الإعلام الاجتماعي، لنعرف نوعية الثقافة التي ننتجها لمجتمعنا وللمجتمعات الأخرى. ويكفي مؤشرا لنوعية الثقافة التي ننتجها، نوعية القضايا التي يتم طرحها في وسائل التواصل الاجتماعي.

إن من يتصدر المشهد في الغالب هم «المهايطيون» والمتطرفون لليسار واليمين والبيروقراطيون والتقليديون والفارغون والمستفيدون والشحاتون والمحبطون والمكتئبون والرداحون والسطحيون والمشعوذون والمنافقون والتصادميون والعنصريون والكلاميون والمتشككون والمترددون والمتوجسون وأنصاف المتعلمين وأنصاف الإداريين وأنصاف المهنيين وأنصاف المحترفين وأنصاف المتخصصين.

يغيب عن المشهد اليومي للأسف وعن الفضاء اليومي المتخصصون والخبراء، وينزوي المهنيون، ويتوارى الحرفيون والمهتمون.

إن المتخصصين والمهنيين والحرفيين وذوي التجارب الناجحة هم صمام أمان الثقافة، وهم بوصلة الإبداع، وهم من يضبطون التوازن والاتزان النفسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمع.

ليس المطلوب القضاء على متطرفي اليمين أو اليسار ولا يمكن ذلك لأنهم موجودون في كل المجتمعات البشرية دون استثناء، لا يستطيع القانون أن يقف على كل صغيرة وكبيرة، ولا يمكن محاكمة الناس على النوايا ولا يمكن بناء المجتمعات على الثقة فقط، لكن المطلوب والممكن هو سحب البساط من تحت هؤلاء وتقليص مساحة تأثيرهم ليس بمنعهم أو تصفيتهم، إنما بالعمل على إيجاد جبهة ثالثة من المتخصصين والمهنيين والمحترفين وأهل التجارب والخبرات الناجحة، كي تعيد للمجتمع توازنه واتزانه وصحته وحيويته فكريا واجتماعيا وأخلاقيا، ولكي نطلق العنان للإبداع والمبدعين.

لسنا ملائكة ولا أفترض أن يكون مجتمعنا ملائكياً، بيد أن هناك شيئا اسمه علم ومعرفة وخبرة، فالموضوعية تتطلب أن يعرف المجتمع نفسه أن حجم هؤلاء المتطرفين لا يتجاوز نسبة 5% يمينا و5% يسارا لكي لا تختلط الأشجار المثمرة بالحشائش الضارة.

إن إعادة إنتاج المجتمع السوي الطبيعي تحتم أن يسمع هذا المجتمع صوت التربويين بوضوح عندما يتعلق الأمر بقضايا تربوية، وأن يسمع صوت الأطباء الحقيقيين بوضوح عندما يتعلق الأمر بقضايا الطب والصحة والغذاء، وأن يسمع صوت المهندسين بوضوح عندما يتعلق الأمر بشأن الإنشاءات والبنية التحتية، وأن يسمع صوت علماء الاجتماع عندما يتعلق الأمر بقضايا اجتماعية وأسرية، وأن يسمع صوت المفكرين عندما يتعلق الأمر بالفكر، وأن يسمع صوت المحامين والقضاة عندما يتعلق الأمر بالقضاء والحقوق، وأن يسمع صوت الماليين عندما يتعلق الأمر بقضايانا المالية.

لست متشائما، ولا أنشد الكمال، لكن القضايا الصحية والتربوية والاجتماعية والتنموية والبيئية والغذائية والإدارية والاقتصادية التي يتم تداولها بيننا تتطلب مرجعية علمية وليس انطباعات شخصية عشوائية مجهولة النسب والانتساب.

ولأن المحتويات التي يتم تداولها في الغالب لا تحمل مصدرا أو مرجعية صريحة وموثوقة، أقترح وأفترض أن تأخذ وزارة الثقافة هذا الموضوع محمل الجد وأن يكون أساسا لرسم أي إستراتيجية ثقافية، نحن لسنا وحدنا في هذا الفضاء، مطلوب منا أن نؤسس الحد الأدنى من المرجعية العلمية الأصلية لما ننتجه من الثقافة الشعبية والنخبوية.

لدينا علماء رياضيات وفيزياء وكيمياء وفلك ولدينا أطباء مبرزون وتربويون أفذاذ فلا يجوز أن تكتفي مؤسساتنا بالمتحدثين الرسميين، إنما المطلوب منصات حية وحيوية للتربويين والأطباء وعلماء الطبيعة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس تكون مرجعية علمية وليست رسمية.

يجب أن أذكر بكثير من الامتنان والسعادة الجانب المشرق والمضيء لمستقبل صناعة الثقافة لدينا وفي بعض الدول العربية، لكي أكون موضوعيا، بأن هناك الكثير من الحسابات والمنصات المتخصصة والعلمية التي بدأت مؤخرا تشق طريقها بخطى ثابتة ومدروسة في فضاء التواصل الاجتماعي من أصحاب الخبرة والعلماء والمهنيين والحرفيين في مجالات شتى. أتمنى أن تباركهم المؤسسة الثقافية الرسمية وأن تدعمهم وتأخذ بيدهم ليكونوا قادرين على الصمود وسط التيارات الجارفة من الفارغين والمتمصلحين والمهايطين والمتطرفين.