طيب تيزيني 

مع انهيار الاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية عام 1989، وما راح يحدث في تلك البلدان بعدئذ، إضافة إلى اختلال موازين القوى العالمية، وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة السياسية والعسكرية والثقافية على العالم، نشأ حال عالمي جديد أخلّ بالموازين الدولية، وفتح العالم على مصراعيه أمام تطورات غير مسبوقة. لقد أحدثت التحولات الجديدة في العالم حالة تصدع انتهت إلى ما يشبه التفكك، وهذا ما أظهر إرهاصات لحالة عالمية جديدة تتمثل في حاجة العالم إلى حركات جديدة تدخله عالم التغيير في أهم الحقول المجتمعية، لاسيما حقول التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية، في أفق القيم الأخلاقية الإنسانية الكبرى للحداثة الأوروبية.

لقد شهد الغرب عملية انتقال واسعة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، ضمن حركة نوعية في التاريخ الإنساني.

والملاحظة أن تلك الخطوات حين ينظر إليها مجتمعةً، يستطيع المرء أن يخمن ما يكمن خلفها من سياق مفتوح، يضعنا وجهاً لوجه أمام التحول باتجاه «القرية الكونية العالمية»، حيث يتبين المدى المفتوح باتجاه جهات ونهايات جديدة ينتهي إليها هذا العالم.

وقد طرح ذلك أسئلة حول النهايات المفتوحة للتاريخ، لاسيما عقب مرحلة الانقلابات العسكرية والصراعات السياسية الكبيرة في العالم العربي، والتي لم تثمر إلا مزيداً من التراجع الداخلي والعقم الخارجي. كان العالم العربي يراهن على شيء من الانفراج، لكن اتضح أن قواه السياسية لم تكن مهيأة لتحقيق ذلك، وأنها لا تملك القدرة على الفعل السياسي المباشر، رغم نشوء قوى تمثلت في حركات الاستقلال والتحرر.

وهنا ينبغي التنويه إلى أن الولايات المتحدة كانت جادة في إعادة بناء المحور العربي، لمصلحة الوضعية العالمية الجديدة، وعلى رأسها اقتسام العالم العربي، وخطوات أخرى تتصل بإعادة بناء الثقافة الوطنية، باتجاه لملمة العالم العربي، وظل النشاط الأميركي في حقول السياسة والثقافة قائماً على السعي لجعل الشرق الأوسط مجال تغيير استراتيجي على صُعُد مختلفة.

ولم يبق التغيير الداخلي في العالم العربي ضمن الأولويات العامة، وإنما بدأ يأخذ جوانب وحقولاً استراتيجية تمس الاستقلال الوطني. فقد كانت المحاولات الأميركية وغيرها تعلن عن ضرورة تطويع اللغة والثقافة بمقتضى التحولات الجديدة، وسار الأمر تحت ضغط الأحداث والخطوات باتجاه ضبط الموقف الأمني.

ولا بد من الانتباه إلى أن حركة المجتمعات التي هي في طريق النمو مزدوجة الطابع، فهي من ناحية أولى تسعى بشكل حثيث إلى ضبط استكمال الحداثة بالاعتبار الغربي، ومن ناحية أخرى، فهي تروم العبور إلى العالمية (العولمة) عبر ضرورات تفرضها الشروط السياسية والاجتماعية المحلية.

ولا بد أن نضع في الاعتبار خطر التطور العالمي الأول، أي الانتقال الأساسي في عملية العبور نحو العولمة. وإذا كان خطر التطور العالمي لا بد أن يكون تجسيداً لمحاولة العبور نحو العالمية في عصر العولمة، بما تفرضه من شروط سياسية، إضافة إلى الإلزامات والقيود التي تستلزمها عملية العبور نحو العالمية، فإن التطور العالمي يمثل خطوة حاسمة للانتقال نحو مجتمع المعلومات.

لقد برزت عوامل وشروط سقوط الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي، كي تصنع ظروفاً جديدة كانت شروطها قد نضجت على صعيد العالم الاشتراكي السابق. وخسر العالم تجارب اشتراكية لم تحقق شروط الاستمرار، أما أحد هذه الشروط، فقد عبر عنه افتقارها للبعد الديمقراطي.