لم يتوقف الكرملين، منذ تحديد موعد قمة الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترمب في هلسنكي، عن دحض أنباء عن صفقات واتفاقات يستعد الجانبان لإقرارها، مثل الاتفاق على إخراج إيران من سوريا في مقابل رفع العقوبات الغربية عن روسيا، أو الاتفاق على صفقة في مجال خفض التسلح توفر للبلدين مليارات الدولارات، أو الوصول إلى تفاهمات حول حدود تحركات حلف الأطلسي قرب الحدود الروسية في مقابل تراجع موسكو عن نشر أنظمة صاروخية متطورة موجهة إلى أوروبا.


وبدا أن الإعلان عن أول قمة رسمية تجمع الرئيسين، بعد طول انتظار، فتح شهية التوقعات وحرك بورصة المراهنات على اختراقات واسعة محتملة، لكن الحذر الذي أبداه الكرملين وهو يراقب التطورات التي سبقت القمة، وبينها نتائج قمة حلف الأطلسي التي خرج منها ترمب «منتصراً» على حلفائه، ومعززاً لنهجه في أوروبا، بالإضافة إلى تحليل «بالونات الاختبار» التي أطلقت في واشنطن، تارة بإثارة شيء من الغموض في ملف ضم القرم، وأخرى بالحديث عن استعادة روسيا موقعها في مجموعة «الثماني الكبار»، والإشارات المتلاحقة إلى شروط ترمب لرفع العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا، كلها عناصر ساهمت في خفض سقف التوقعات والمراوحة عند ترجيح أن تكون القمة مدخلاً مناسباً لـ«تبادل الآراء وتوضيح المواقف حيال الملفات المعقدة الكثيرة»، وفق تصريح الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف الذي أوضح أن الحديث عن «مساومات محتملة» لا يبدو واقعياً و«علينا أن نطلق الحوار ونسعى إلى فهم أكبر لمواقف كل طرف من أجل إثبات أو تبديد مخاوفنا بشأن عدد من القضايا».

ويعكس الربط الروسي بين «الحال المحزنة للعلاقات» التي «تدهورت إلى أسوأ درجة في التاريخ» والسعي إلى إبراز «الإرادة السياسية المطلوبة للتطبيع» السقف الذي وضعه الكرملين لإدارة الحوار بين الرئيسين في قمة تنتظر منها موسكو أن تشكّل منعطفاً حاسما، يعيد الوزن لتعهدات الرئيس الأميركي خلال حملته الانتخابية بتحسين العلاقات مع موسكو والتعاون معها لتسوية المشكلات الدولية المعقدة.

الأكيد أن القمة تعقد من دون جدول أعمال محدد سلفاً، وصدرت إشارات عدة عن الكرملين إلى أن الرئيسين سيحددان بنفسيهما خلال اللقاء المحاور التي سيتم التركيز عليها والتوسع فيها.

ويترك هذا المدخل هامش المناورة واسعاً أمام بوتين، كما أنه يبدو مريحاً لترمب. إذ يجنّب الطرفين التوسع في مناقشة ملفات «غير مريحة» لعملية إعادة تشغيل العلاقات مثل موضوع «التدخل الروسي» في الانتخابات الأميركية. ولا يعني ذلك أن الملف سيغيب عن الحوار، لكنه لن يشكل محوراً رئيسياً للبحث بحسب تقديرات مصادر مقربة من الكرملين، لأنه مرتبط «بحملات داخلية في الولايات المتحدة تسعى إلى تقويض سلطات ترمب وعرقلة تحركاته، أكثر من أن يكون أزمة بينية في العلاقات مبنية على أسس يمكن مناقشتها وتسويتها»، وفق تأكيد مصدر تحدثت إليه «الشرق الأوسط».

كما أن هذا المدخل يوفر أرضية أوسع للبحث في القضايا التي يمكن التقارب فيها، وتأجيل الملفات الأكثر تعقيداً والمرتبطة بلاعبين دوليين آخرين مثل موضوع ضم القرم. إذ ترفض موسكو سلفاً وضع أي شروط للتعامل مع هذا الملف، وتعتبره «خطا أحمر». ويسيطر اقتناع لدى الروس بأن ترمب لن يكون قادراً على القيام بخطوات أحادية تتعارض مع السياسات الأوروبية وتؤلب عليه المعارضة الداخلية كثيراً. لذلك فإن ملف أوكرانيا الذي سيكون موضوعاً بالتأكيد على الطاولة سيبحث بالدرجة الأولى وفقاً لتقديرات روسية تثبيت وقف النار في الشرق وإعادة الحياة إلى مسار اتفاقات مينسك مع مسعى لفتح حوار أكثر جدية حول آليات التسوية السياسية مع تحييد موضوع القرم مؤقتاً. وهذا أمر مريح للكرملين ويجنّب البيت الأبيض الحرج، لأن الفهم الروسي يقوم على أن عدم قيام ترمب بتقديم تنازلات مباشرة للروس يساعده أكثر على المستوى الداخلي في إطلاق عملية التطبيع وإعادة تشغيل العلاقات.



- ملف الأمن الاستراتيجي

في المقابل، تنتظر موسكو أن يتم التوقف بشكل مفصّل أمام قضايا الأمن الاستراتيجي وملف التسلح مع كل ما يرتبط به من تحركات عسكرية لروسيا وللأطلسي. وثمة من يرى في موسكو أن إحدى أبرز النتائج المحتملة للقمة إعادة الحوار الثنائي حول هذا الموضوع بكل تشعباته، مع وجود إشارات إيجابية، من وجهة النظر الروسية، تستند إلى حرص ترمب على القيام بخطوات لتقليص النفقات الزائدة على سباق التسلح، وهذا التوجه برغم أنه مريح بالنسبة إلى موسكو لكنه يواجه بتعقيدات واسعة في أوروبا، وهو أمر برز خلال القمة الأطلسية الأخيرة، والتأكيد على مسائل تعزيز أمن البلدان الأوروبية عبر نشر مزيد من القدرات للحلف الغربي في البلدان المحاذية للحدود مع روسيا.

هنا لن يكون كافياً الطلب من روسيا أن تتوقف عن نشر أنظمة صاروخية في إقليم كاليننغراد في مقابل وقف خطط تعزيز وجود قوات الحلف على حدودها. وبرغم أن الكرملين يأمل في توسيع الهوة بين واشنطن وحلفائها في أوروبا حول مسائل الأمن والتسلح، لكن نتائج قمة الأطلسي لا توحي بأن هذه المهمة ستكون سهلة أمام بوتين.

ويرى خبراء عسكريون روس أن العمود الفقري الأساسي للتعامل مع هذا الملف يقوم على إعادة الحياة للحوار حول استئناف العمل بالمعاهدات الموقعة بين روسيا والولايات المتحدة، وعلى رأسها المعاهدة الخاصة بنشر أنظمة الدفاع الجوي الموقعة عام 1972 بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة والتي انسحبت منها واشنطن في 2001. ما جعلها معطلة منذ العام التالي وحتى الآن، وهو أمر سمح لواشنطن بتطوير وإطلاق مشروعها الضخم لإنشاء مظلات الدفاع الصاروخي في أوروبا. وما زالت واشنطن منذ ذلك الحين تؤكد لروسيا أن هدف المظلة الحماية من صواريخ كوريا الشمالية وإيران، بينما ترى فيها موسكو تعزيزاً للطوق العسكري من حولها.

ويرى الكرملين أن استئناف الحوار حول آليات للعودة إلى تنفيذ الاتفاقات السابقة سيشكل نقطة انطلاق أساسية للتطبيع، لأن هذا المدخل يفتح على مناقشة رزمة من الملفات الخلافية الحساسة بينها الحشود على الحدود مع أوروبا ومسائل سباق التسلح. لكن النخب الروسية تدرك تماماً أن الوضع الحالي أكثر تعقيداً بكثير تجاه هذه المسائل من الوضع قبل عقدين، وثمة عناصر جديدة دخلت على الخط بينها الشعور الغربي بأن روسيا باتت تشكل تهديداً جدياً للأمن الأوروبي خصوصاً بعد حربي جورجيا وأوكرانيا، بينما تشكو موسكو من نهج واضح يقوم على محاولات تقليص نفوذها في الفضاء السوفياتي السابق وتطويقها بحزام عسكري وسياسي معاد في أوروبا الشرقية. وجاء تأكيد حلف الأطلسي على نيته ضم أوكرانيا وجورجيا في المستقبل ليوجّه رسالة إلى الكرملين في هذا الشأن سبقت القمة مباشرة.

ويفتح هذا الباب لمناقشة العلاقة المتدهورة بين روسيا وحلف الأطلسي، الذي برغم أنه لم يقطع كل خيوط الاتصال مع موسكو وحافظ على مجلس «روسيا - ناتو» عبر جلسات تعقد على مستوى المندوبين الدائمين، لكن النقاشات المهمة غابت بسبب تعطيل اللقاءات على المستوى الوزاري منذ العام 2013. وتنتظر موسكو أن يلعب ترمب دوراً في هذا الشأن. وبرغم عدم توقع تطبيع قريب للعلاقات، وفق خبراء في مجلس السياسات والدفاع تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، لكن «إطلاق الحوار حول الملفات الخلافية يخفف من اندفاع الطرفين نحو تأجيج الموقف أكثر في المناطق الحدودية». ويواجه هذا بمخاوف جدية في الأطلسي وفي أوروبا، برزت من خلال دعوة رئيس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك الدول إلى الاستعداد للفترة الصعبة بسبب «تقويض ترمب الوحدة الأوروبية الأطلسية». وعبّر عن ذلك أيضاً منسق الحكومة الألمانية لشؤون التعاون عبر الأطلسي بيتر باير بقوله «نحن في الحلف نشعر بقلق متزايد حيال اتفاقات يمكن أن يتوصل إليها ترمب وبوتين في لقائهما».

والجانب الثاني الذي قد يكون أكثر تعقيداً في هذه المسألة يتعلق بالعلاقة الروسية مع الاتحاد الأوروبي الذي كان قبل الأزمة مع موسكو الشريك التجاري والاقتصادي الأهم لروسيا. وثمة قلق حيال سياسات ترمب برز لدى الطرفين كل منهما بحسب أجندته وأولوياته، وفي مقابل المخاوف الأوروبية من «تنازلات» قد يقدمها ترمب في المسائل الدفاعية تؤثر على أمن بعض البلدان الأوروبية، ثمة قلق روسي من منحى تعليقات ترمب حول مسائل استراتيجية في العلاقة الروسية – الأوروبية مثل موضوع إمدادات الطاقة. وشدد الكرملين، أخيراً، على أن التهديدات الأميركية للشركات الأوروبية وروسيا وألمانيا، المتعلقة بمشروع «السيل الشمالي 2» لتوريد الغاز الروسي إلى ألمانيا: «تثير قلقاً جدياً». وترى موسكو أن ترمب سعى إلى دق إسفين بين الأوروبيين المنقسمين حول ملف إمدادات الطاقة، وفي مقابل حرص ألمانيا وعدد من البلدان المستوردة للغاز الطبيعي الروسي على عدم قطع شعرة معاوية في العلاقة مع موسكو، تعتبر بولندا التي باتت تشكل رأس الحربة في المواجهة الأطلسية والأوروبية مع روسيا أن أوروبا ليست بحاجة إلى «السيل الشمالي 2». وقال وزير خارجيتها ياتسك تشابوتوفيتش: «هذا نموذج عن دول أوروبية تقدم الأموال لروسيا، وهي أموال يمكن استخدامها ضد أمن بولندا».



- خريطة طريق للحوار

ورداً على سؤال عن توقعاته للقمة المرتقبة، قال وزير الخارجية سيرغي لافروف إن الجانب الروسي سيعتبر اللقاء بين الرئيسين ناجحاً إذا أسفر عن بدء حوار طبيعي بين الجانبين، علما بأن كل قنوات التواصل بينهما تم تجميدها، بما في ذلك القنوات الخاصة بمكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات والطاقة والأمن الإلكتروني، والوضع في أفغانستان والنزاعات الإقليمية، ولم يبق من كل ذلك سوى لقاءات غير منتظمة بين دبلوماسيين وعسكريين، وخاصة في ضوء التطورات في سوريا، إضافة إلى لقاءات محدودة حول أوكرانيا.

ويبدو تقويم لافروف للموقف «واقعياً»، بحسب تعبيره، وهو قال في مقابلة مع قناة تلفزيونية أميركية إنه لا يتقاضى راتبه كي يتحدث بمشاعر التفاؤل أو التشاؤم بل للقيام بتقويم واقعي.

ويرى الكرملين أن «الاختراق» الحقيقي المطلوب من القمة هو وضع خريطة طريق واضحة لاستئناف الحوار على كل المستويات، مثل اللجان المشتركة والمجالس البرلمانية والاقتصادية المختلفة ومجموعات العمل الدبلوماسية وغيرها من الآليات المعطلة. ويواجه هذا المسعى تعقيدات داخلية واسعة في واشنطن، لكن موسكو مقتنعة بأن ترمب - برغم مشكلاته داخلياً - قادر على إعطاء إشارة الانطلاق لاستئناف الحوار تدريجياً.

ويحتاج هذا المسار، وفق خبراء روس، إلى الخروج بنتائج واضحة في ملف واحد على الأقل، وهنا ليس المهم أن ترقى النتائج إلى درجة الاتفاق الكامل لأن هذا الأمر يبدو مستبعداً، بل «على الأقل أن يبرز تفاهم على آلية عمل محددة وواضحة لتسوية هذا الملف أو ذاك». وفي هذا المجال برزت توقعات مختلفة تقوم على أن بوسع الرئيسين إطلاق آلية عمل مشتركة في الملفات الأقل خلافاً وتعقيداً، أو القيام بخطوة صغيرة لكنها ذات رمزية مهمة مثل تشكيل لجنة عمل مشتركة لتعزيز الأمن السيبراني.



- سوريا... الطريق إلى التطبيع؟

ويرى محللون روس أن الأزمة السورية تشكّل واحداً من الملفات الأقل تعقيداً والتي يمكن بشكل أسرع من غيرها التوصل إلى تفاهمات بشأنها، قد لا ترقى إلى مستوى تحقيق اختراق كامل، لكنها تضع أساساً للإعلان عن قدرة البلدين على إحراز تقدم ملموس في الملفات المعقدة. وتدور تكهنات في أوساط السياسة والتحليل الروسية حول احتمال أن يكون التفاهم على آليات لـ«تسليم» واشنطن الشمال الشرقي من سوريا، إحدى نتائج قمة هلسنكي، في إشارة إلى أن هذا ينسجم مع الخط العام الذي أعلنه ترمب مراراً حول نية الانسحاب من سوريا، بشرط أن تتحمل روسيا بعض الالتزامات. وتبدو التفاهمات التي سعت روسيا إلى عقدها حول الجنوب السوري، مع أطراف إقليمية بينها إسرائيل استباقاً لموعد القمة، أساساً لمناقشة آليات مشتركة لوضع ملامح أولية للتسوية النهائية في سوريا. وثمة من يقول في العاصمة الروسية إن موسكو ودمشق وطهران ترغب في تسليم ترمب شمال شرقي البلاد لنظام الرئيس السوري، وفي المقابل قد توفر موسكو حماية حدود إسرائيل والأردن في الجنوب الغربي كحافز للولايات المتحدة كي تتخلى عن الشمال الشرقي. ويشدد خبراء روس على أن الخيار الذي يتولى فيه الجانب الروسي المسؤولية عن أمن إسرائيل والأردن يثير مسألة ثمن هذه «المسؤولية» من ناحية، كما أن موسكو لا تملك قدرة كافية للتأثير على القوات الإيرانية من ناحية أخرى.

وكان الكرملين دحض أنباء حول التحضير لاتفاق بين الرئيسين والأميركي حول خروج القوات الإيرانية من سوريا. لكنه لفت، في الوقت ذاته، إلى أن موسكو مستعدة لـ«بحث تفصيلي لكل جوانب الوضع في سوريا» تاركاً الباب مواربا للتوصل إلى تفاهمات معيّنة وليس إلى صفقات وفقاً لترويج بعض وسائل الإعلام.

ومع مراوحة «العقدة الإيرانية» التي تشكل العنصر الأصعب في التوافق على سوريا، يرى خبراء روس أن لدى الطرفين القدرة على التقدم في هذا الملف عبر مقاربة جديدة تقوم على الإفادة من مقترحات أوروبية سابقة بإنشاء آلية مشتركة لوضع الحل النهائي على سكة التنفيذ، بالإفادة من عنصر الرغبة الأميركية في مغادرة سوريا والشعور الروسي بأن واشنطن «ليست مهتمة كثيراً» بإدارة العملية ومستعدة لتركها للروس مع مراعاة مصالح الأطراف الإقليمية والدولية المهتمة.

وكان سفير روسيا في واشنطن، أناتولي أنطونوف، قال إن لدى بلاده وأميركا فرصة للتوصل إلى حل وسط للأزمة في سوريا من دون أن يشير إلى طبيعة الحل الوسط المقبول روسيا، وهو المطلع على كواليس المطبخ السياسي وسبق إن كان نائباً لوزير الدفاع قبل أن ينتقل إلى الخارجية.