عبدالله بشارة

كتب الكاتب اللبناني المعروف سمير عطا الله يوم 27 يونيو الماضي مقالاً طويلاً استعرض فيه صداقة بيننا بدأت في بداية الستينات، وتعمقت في السبعينات ثم ترسخت مع وصوله إلى الكويت مديراً لتحرير صحيفة الأنباء الكويتية عندما كان رئيس تحريرها المرحوم فيصل المرزوق، صاحب القيم العالية، والصداقة الدافئة.


عرفت سمير عطا الله كاتباً مهماً في النهار، مشغولاً بقضايا لبنان ومسكوناً بالفكر المستنير ومهووساً بالقراءات المتنوعة، لكن تلك الحصيلة من المعرفة لم تخلصه من قلق الدنيا، فتوجه إلى كندا، وكنت من الذين اعترضوا على هجرته وكتبت له رسالة استغراب من هجره لقضايا لبنان وأشواك العرب، واسترخائه في الغربة البعيدة.
في 1971 توليت منصب مندوب الكويت الدائم في الأمم المتحدة، وكان مندوب لبنان السفير الوقور أدوارد غرة، وجاءت تحولات لبنان بالوزير والصحافي البارز غسان تويني سفيراً للبنان في الأمم المتحدة، ومن هذا التواجد، انضم سمير عطا الله إلى مجموعة تشكلت من بعض السفراء العرب وبعض العرب العاملين في الأمم المتحدة، وكنت أنا وغسان من تلك المجموعة، وانسجم سمير عطا الله مع واقع الأمم المتحدة، ففيها التنوع الذي يعشقه وفيها ورطة لبنان السياسية مع منظمة التحرير ومع المتمرد اللبناني في الجنوب المقدم سعد حداد المحتمي بقوة اسرائيل.
واستفاد سمير كثيراً من ممرات الأمم المتحدة فوقف على حقائق العالم من دون تجميلات ومن غير تحسينات الماكياج السياسي.
رأى الدول تناضل لمصالحها وتظهر همومها وتعبر عن قلقها وتلاحق منافعها، رآها كما هي عارية من الشعارات ومن إلهامات الأحلام.
تجربتي في الأمم المتحدة رسخت عندي شرعية الدولة الوطنية التي هي أسمى صيغ التعبير عن الهوية الوطنية، يحميها ميثاق الأمم المتحدة، الذي لا يقر العبث بأمنها الداخلي ويصون استقلالها، هذا الشعور لازمني، لا سيما بعد تجربتي لمدة سبع سنوات مديراً لمكتب سمو الأمير عندما كان وزيراً للخارجية، حيث عشت هموم الكويت مع النظام العراقي، وعلى الأخص في فترة «البعث» المؤلمة، فشاهدت التطاول وعشت الاستخفاف بالوطن الكويتي، وشاركت القيادة آلامها في انسداد آفاق التفاهم مع الجوار العراقي، خصوصاً بعد وصول صدام حسين إلى الحكم، حيث وظف الشعارات الفارغة ليخفي طموحاته وتوسعاته على حساب التراب الكويتي، وصاغ دبلوماسية تتجه إلى الخليج يقودها بعث العراق مع مفردات غليظة وضغوط ابتزازية يقابلها نهج الأدب الجم الذي التزمته القيادة الكويتية، في تصور بأن العسر سيتبعه اليسر.
كانت حكاية فيها ألم وفيها ظلم وفيها قسوة وفيها أكاذيب وادعاءات وتخرصات لا تعرفها الدبلوماسية الكويتية التي حماها سمو الأمير من الانزلاق نحو المواجهات.
وصبرت الكويت، وحتى في اللحظات التي طغت فيها مؤشرات العدوان، كانت الكويت تمتثل إلى التهدئة وافتراض حسن النويا، ولم نصدق جميعاً ما حدث يوم الثاني من أغسطس 1990.
طاح حطب المجاملات، كما نقول في الكويت، مع إصرار على التحرير بأي وسيلة، وحصل ذلك، لكننا خرجنا من وهم تعايشنا معه وغدر بنا، وحملت معي منذ ذلك الوقت ما تعلمناه في الأمم المتحدة، صوت الدولة الوطنية وحماية شرعيتها، ومسؤوليتي كمواطن في تأمين التخلص من أوهام الردع العربية، فالرسالة الكبرى التي تعلمناها «عليك ألا تعتمد على البيانات والتصريحات عندما يكون الخلاف من داخل المجموعة العربية» هذه الحقيقة أبلغ الدروس التي رافقتنا منذ الغزو.
وما حيرني أن سمير عطا الله الذي عاش في الكويت وتأقلم مع أهلها لم يقف على عمق الآلام الكويتية من خشونة الدبلوماسية العراقية ومن جورها وتوحشها، ويمكن له العذر لأننا كنا نكتم المزعج ونظهر المفرح، وهنا أيضا أشير إلى ما تناوله من دواوين الكويت ستحرج من وجودي فيها، وأقول بأنه لم يشخص غرام الكويتيين في وطنهم وتعلقهم به، وصلابة واقعيتهم، كنت أقابلهم خلال الغزو في الأمانة العامة لمجلس التعاون قادمين بحثا عن معلومات مع رغبة في اطمئنان منهم على حتمية التحرير.
انخرط سمير عطا الله ضمن كتاب الأعمدة اليومية في صحيفة الشرق الأوسط، وارتحت شخصياً لتواجده في الصفحة الأخيرة يومياً، وأجزم بأنه من خلال الشرق الأوسط تعرف على فكر الخليجيين في التشبث بالسيادة والهوية الوطنيتين، وقد جاءت صيغة مجلس التعاون ترجمة لهذا الشعور الكامن، فلم يبدأ المجلس بقرارات عابرة للحدود الوطنية، فهذا أمر غير وارد، وإذا كانت الأمم المتحدة توفر الحصانة للدولة الوطنية واقتدى بها مجلس التعاون، فإن الجامعة العربية أهدرت الكثير من الجهد والوقت في التفريق بين المصالح الوطنية والمواقف القومية، والحق، لا دولة تضع مصالح الآخرين فوق مصالحها.

***
في شهر أكتوبر المقبل، سأصدر كتابي «الكويت قبل الغزو وبعده ومتاعبها مع الجغرافيا العابسة – The grim geography» بين جارٍ في الشمال غير مستقر ومضطرب، وآخر في الشرق له مأمورية تاريخية لنشر مشروع ديني توسعي.
تجربة الكويت الحزينة بدلت المسلك الدبلوماسي الخليجي وأدخلته في حسابات موازين القوى وتأمين الردع الاستراتيجي الجماعي.