محمد علي فرحات

إذا صدقت مواقع التواصل الاجتماعي فالعراق يغرق في الفوضى، لكن المواقع كثيراً ما تنقل الرغبات وقليلاً ما تعرض الواقع. وأياً كان الأمر، فإن قطع التيار الكهربائي عن مناطق الجنوب من مصدره الإيراني، يؤكد الصورة السلبية للسلطتين في طهران وبغداد، فالحكومة العراقية امتنعت عن سداد ثمن الكهرباء انسجاماً مع الحصار الأميركي والدولي على إيران، وهذه الأخيرة لم تتحمل أن تأتيها الضربة «من بيت أبيها» العراقي فقطعت التيار انتقاماً لا حفظاً لحقوق لم تسددها بغداد.

لكن الكهرباء التي لم تصل الى البيوت وأماكن العمل وصلت إلى أعصاب المواطن فاستنفرتها، وخرجت الجموع لتعلن اعتراضات طالما بقيت حبيسة النفوس. هذا الحكم العراقي الذي يديره حزب «الدعوة» يذكّر بحكم «الإخوان» مدة سنة في مصر: تقريب «إخوان العراق الشيعة» من مراكز السلطة في مستوياتها كافة وإتاحة الفرص لهم لاغتنام كثير من المال «الحرام»، أي لعبة الفساد التي تحطم دولاً ومجتمعات، فكيف بالحري إلحاق أذى بالعراق يتجاوز الحروب التي خاضها، والاحتلال الذي حطم إدارته وجيشه، والتعصب السلطوي الذي أتاح للإرهاب الداعشي أن يقيم دولته على مساحات تزيد على تلك التي تحكمها دولة حزب «الدعوة».


وتبعث الاعتراضات والتظاهرات في مناطق الوسط والجنوب برسالة إلى العالم تقول إن الطائفية لم تحقق لشيعة العراق فائدة، بل أساءت الى مواطنتهم ودفعتهم إلى التهميش والجوع وألحقتهم بالنظام الخميني رغماً عنهم. من هنا تركيز المتظاهرين على إدانة الحضور الإيراني وإبراز سلبياته استناداً إلى قطع الكهرباء كمثال. وإذا كانت «الهبّة» العراقية آيلة إلى الانحسار نتيجة وعود حيدر العبادي وانسداد الأفق أمام المتظاهرين، فهي في النهاية عيّنة على أن حاضر العراق ومستقبله القريب موعودان بوقفات احتجاجية تشهد في الدرجة الأولى على أن صيغة الحكم الحالية فاشلة، وعلى أن العراق لم يصل بعد إلى صيغة بديلة لأسباب داخلية وإقليمية ودولية. وقد تبيّن بعد ما حدث ويحدث في العراق وسورية، أن البلدين كانا ولا يزالان مخيّرين بين الديكتاتورية والفوضى، أي استعباد الإنسان أو تشتيته، وهذا ما لاحظه العالم في الدولة القوية الفاسدة وفي الثورات الفوضوية المفسدة.

ومن سوء حظ العراقيين أنهم يقدمون كأفراد نخباً تنجح خارج الحدود وتفشل في الداخل، لأن هذا المجتمع يتنصل منها ويأنس الى مأثوراته فيبدو أشبه بمتحف لبشر لا يتغيرون. وليست المشكلة في شيوخ القبائل ورجال الدين، بمقدار ما هي في العجز عن تكوين الوطنية العراقية لأسباب أيديولوجية واجتماعية مضافة إلى ضغوط الجوار الإيراني والتركي. ورفضت الدولة العراقية، الحديثة شكلاً، خلال عقود مضت على ولادتها، الاعتراف بشخصية قومية للأكراد ومثل ذلك للتركمان، كما أدارت ظهرها للجار الإيراني ولم تبادر الى علاقة واضحة معه تحفظ للوطن العراقي شخصيته وتضغط على الآخر للاعتراف بها انطلاقاً من احترام متبادل بين وطنين وشعبين يضبط التداخل في إطار القانون، هذا فضلاً عن أن الدولة العراقية الوليدة سلّمت إدارتها إلى شخصيات من مدن بغداد والموصل والبصرة على رغم وجود ممثلين عن الأرياف والبوادي في البرلمان والحكومة، وبذلك لم تشعر غالبية العراقيين بوجود الدولة، عدا الجيش والشرطة وجباة الضرائب.

من معوقات ولادة وطن عراقي تحكمه دولة حديثة تمثل شعبه، وجود الانقسام الطائفي أيديولوجياً لا اجتماعياً، يغذيه بعض رجال الدين بعلم منهم أو من دون علم، والتفتت الاجتماعي الناتج عن غلبة الانتماء القبلي على الوطني. لكن أبرز المعوقات هو المبالغة في رفع شعار العروبة، وصولاً الى اقتراحات بوحدة مع دولة أو دول عربية أخرى، مع الأردن مثلاً، لم يكتب لها النجاح. كان الاتجاه الى الوحدة قفزاً فوق مشاكل الدولة الوطنية، كما حدث في الوحدة بين مصر وسورية على سبيل المثال. وبالنسبة إلى العراق أساء شعار الوحدة الى الدولة الوطنية، خصوصاً أن العروبة لا تعني كثيراً الأكراد والتركمان، بل تؤكد تهميشهم.

العراق الآن في انهيار سياسي واقتصادي واجتماعي، لن ينجو منه إلا برفع الشعار الوطني واستنهاض الشعب، في مكوناته كلها، حول الدولة الوطنية الديموقراطية التي تحقق المساواة وتتميز عن دول الجوار ، مع محافظتها على المصالح المشتركة في الإقليم.