النظام القطري سخر أموال شعبه لرفد الإرهاب

القاهرة - محمد عبدالواحد

 

كانت الأجواء في مطار بغداد الدولي صبيحة يوم 15 أبريل 2017، تسير على نحو معتاد، فلم يعد هناك غرابة من رؤية عناصر الحرس الثوري الإيراني بجانب دبلوماسيين من روسيا أو تركيا بالمطار، فالجميع في جولات مكوكية يسعى للهيمنة على عراق العروبة، قبل أن تحط الرحلة القادمة من العاصمة القطرية الدوحة في المساء؛ لتقلب كيان المطار بـ 23 حقيبة متماثلة اللون والحجم، جذبت أنظار الجميع، وأنهكت الحمالين أثناء نقلها إلى صالة كبار الزوار!.

حقائب حملت معها أسرار وكواليس "فدية العصر"، حيث أصر ضباط المطار على تفتيش الحقائب القطرية، بينما كان مسؤول قطري رفيع المستوى منشغلاً بإجراء العديد من الاتصالات الهاتفية لرؤسائه بالدوحة، وشخصيات سياسية داخل العراق، وظل الأمر يأخذ شكله الجدلي حتى دخلت ساعات الفجر، ليطفئ معها مسؤولو المطار نيران شغفهم بفتح إحدى الحقائب فوجدوا كتلاً مستطيلة الشكل، محشوة بالأوراق الخضراء الشهيرة (360 مليون دولار أميركي)، جعلتهم يحبسون أنفاسهم في دهشة متناهية.

واستمرت المناوشات بين الجانبين العراقي والقطري لمدة أسبوع؛ حتى انتهت المسرحية الهزلية بعودة الدبلوماسيين القطريين وبرفقتهم عدد من منتسبي أسرة آل ثاني ومواطنين قطريين، كانوا محتجزين لدى الميليشيات الإيرانية في العراق لمدة 16 شهراً، لتتفتح بذلك قصة أكبر تمويل للإرهاب في التاريخ بأموال قطرية، وارتكاب تغيير سكاني لأربع بلدات سورية حولت البلاد إلى حاضنة للإرهاب الإيراني إلى جانب العراق ولبنان، وفق ما نشرته وسائل الإعلام العالمية ومنها "واشنطن بوست" و "بي بي سي"؛ لتوثق سجلاتها للتاريخ بهذه الفدية المليارية أن النظام القطري صاحب لقب "أكبر داعم للإرهاب".

بداية القصة

وتعود قصة مسلسل احتجاز الأمراء القطريين لنوفمبر من العام 2015م، بعد قرارهم أن يحملوا مئات الآلاف من الدولارات، ويتوجهوا لصيد الحبارى في صحراء محافظة المثنى جنوب العراق، وهو المكان ذاته القريب من أكبر تجمع للميليشيات الموالية لإيران الموجود في "قاعدة طلليل" العسكرية، في وقت كان يشهد انتشار الميليشيات المسلحة المدعومة إيرانياً، وهجمات مسلحي تنظيم داعش الإرهابي، بما جعل العراق وجهة يستحيل على السائحين أن يفكروا فيها حينذاك، لكن المجموعة القطرية قررت أن تتجاهل التحذيرات، وتسلك طريقها الذي لم يخل من توزيع آلاف الدولارات على من يقابلهم من البدو؛ ليعلم الجميع أن هناك من يمنح مالاً في الصحراء.

وحط القطريون رحالهم، وأقاموا خيامهم، واستمروا في عمليات الصيد لعدة أيام، ثم ما لبثوا أن يستيقظوا ليومهم الأخير قبل العودة للدوحة، حين وجدوا أنفسهم محاصرين بعربات دفع رباعي مدججة بالأسلحة المتنوعة، ومحاطة بالعديد من المسلحين الملثمين. وفي بداية الأمر لم يكن الهجوم مقلقاً، لقرابة الدوحة من مختلف التنظيمات الإرهابية التي لا تتأخر عن تنفيذ طلبات النظام القطري، لكن هذه المرة كان المسلحون يرددون هتافات تابعة لإيران؛ هنا أدركت المجموعة القطرية أنها جاءت من الدوحة لتقع في حبائل فصيل إيراني.

وفي ذلك الوقت، دفع جنون العظمة النظام القطري إلى محاولة مساومة الخاطفين بالأموال الكثيرة التي كانت بحوزتهم، والتي تخطت مئة ألف دولار بحسب التقارير الدولية.

ومن غرفة تفوح منها رائحة الارتباك، كان السفير القطري المعين حديثاً زايد الخيارين منهمكاً في تبادل الرسائل مع رؤسائه وديوان الحمدين، بعد أن بدأ مصطلح "الاختطاف" يتردد في الدوحة والأوساط القطرية البارزة، إلا أن التمّرس القطري في صناعة ودعم الميليشيات جعل الأمر أقل حدة منه في حالة مختطفين من أي دولة أخرى، فالنظام القطري تربطه علاقات وثيقة بمحور شر متمثل بإيران وأذرعها الميليشياوية في العراق واليمن وسورية، وكذلك يعمل وكلاؤه من التنظيمات السنية داخل العراق وسورية وغيرهما، وهذا ما ضمن ارتياح التنظيم القطري إلى حد ما، لعدم قدرة الخاطفين سواء تنظيمات شيعية أو سنية على قتل محتجزيه، وخسارة الدعم السخي من الدوحة، التي بدأت تبحث عن تقديم المزيد من الخنوع، وإصباغ مساعدة الإرهاب بالفدية.

وتداعياً للقضية، اتخذ السفير القطري صاحب الخبرات السابقة في سورية، دور الوسيط بين النظام القطري والخاطفين، حيث راسل وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني؛ ليخبره بأن الخاطفين هم ميليشيا حزب الله العراقية التابعة لإيران، وكتب للوزير القطري رسالة نشرتها وسائل الإعلام العالمية، تقول: "قد أخبرتهم بأن يعيدوا لنا أربعة عشر شخصًا.. وسنعطيكم نصف القيمة". وبعدها بأيام قليلة راسله مرة أخرى قائلاً: "إنهم يريدون بادرة حسنة من جانبنا أيضاً، هذه علامة جيدة بالنسبة لنا.. تدل على أنهم في عجلة من أمرهم ويريدون إنهاء كل شيء في أقرب وقت".

وصول سليماني

في هذه الأجواء التي كانت تتجه نحو مجرد فدية مادية لدعم إرهابيي إيران بالعراق، كان أخطر إرهابي في العالم قاسم سليماني الذي يتزعم قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، قد وصل لتوه إلى الأراضي العراقية؛ ليهندس كيفية الاستفادة من مسلسل احتجاز القطريين، فحاول أن يضرب عدة طيور بحجر واحد، حيث لم يبدِ في البداية أي اهتمام للمال القطري، بل كان شغله الشاغل هو سورية، حيث استغل علاقة الدوحة بالتنظيمات الإرهابية على الأراضي السورية في إقناعها للضغط على هذه الجماعات من أجل فك الحصار عن مدينتي الفوعة وكفريا، حيث كانتا حينذاك محاصرتين من قبل جماعات مسلحة مدعومة من تنظيم الحمدين، كما استغل الوضع أيضاً من أجل تنفيذ مخطط تغيير سكاني لمدينتي الزبداني ومضايا بتهجير سكانهما، واستبدالهما بآخرين موالين لإيران.

واللافت للنظر أنه قبل احتجاز القطريين في العراق بأسابيع قليلة، كانت إيران قد بدأت في تنفيذ مخططات خبيثة لإجراء عملية تغيير ديمغرافي في البلدات السنية على الحدود اللبنانية؛ ليزيل أي عائق أمام تدفق الميليشيات الإيرانية والأموال والأسلحة بين سورية ولبنان؛ وإزالة التهديدات التي كانت تواجه نظام الأسد في دمشق القريبة من هذه البقعة، إضافة لمقايضة هذه المكاسب على الأرض بإزالة الحصار على مدينتين مواليتين لإيران في الشمال السوري وهما "الفوعة وكفريا".

وبعد وصول سليماني بمخططه الجديد، توقفت مفاوضات فدية العصر الثمينة، بعد صدور أوامر لأتباع إيران بالمماطلة، ومحاولة طلب مبالغ فلكية، وحينها راسل السفير القطري الدوحة، قائلاً: "كلهم لصوص، .. كلهم يريدون المال وهذه فرصتهم".

ولذلك بدأ سليماني بتنفيذ هذه المخططات الثمينة بإيفاد مبعوث رفيع المستوى من ميليشيا حزب الله إلى الدوحة؛ ليضع اللمسات الأخيرة على أحقر اتفاق ضد السوريين: "إطلاق سراح الرهائن القطريين مقابل مساعدة قطرية على تنفيذ اتفاق البلدات الأربع"، والذي سمح مستقبلاً بتغلغل إيراني واسع بسورية، ودمج حدودها مع الحدود اللبنانية؛ لتحقيق ما يعرف بـ"الهلال الإيراني"، لتكون هذه الصفقة مؤشراً خطيراً على لا مبالاة النظام القطري فيما يخص العواقب التي ستواجه الدول العربية إثر ذلك، بعدما ألقى بأموال قطر وكامل قواها ومؤسساتها من أجل مقايضة 9 مخطوفين بالسوريين وشعوب المنطقة، في مسرحية هزلية أثارت غضب الإعلام العالمي.

وبدأ النظام القطري في تهديد أمن المنطقة، بالتواصل مع وكلائه من جبهة النصرة في سورية، من أجل تنفيذ الاتفاق، حيث عارضته في البداية وأعربت عن امتعاضها من تهجير السكان السوريين من منازلهم، وتم تعليق المخطط لبعض الوقت، لكن سرعان ما أتى المال القطري بنتائجه حيث أزال العقبات كافة، وأقنع وكلاء الدوحة بتنفيذ الاتفاق بعدما حقق لهم أحلامهم المادية واللوجيستية، ولم يكن ذلك بجديد على التعاون بين قطر والتنظيمات الإرهابية، حيث سبق وأن دعمت الدوحة جبهة النصرة بطريقة علنية بمبلغ 16 مليون دولار بزعم تحرير راهبات تم اختطافهن بطريقة منظمة في بلدة معلولا السورية في العام 2014م، كما حصلت النصرة على أكثر من 32 مليون دولار من النظام القطري من أجل تحرير صحفي أميركي كانت قد اختطفته الجبهة.

في غضون ذلك، لم يكتف الإرهابي سليماني بما تحقق لإيران في سورية من بوابة قطر، حيث أكمل صفعاته على وجه النظام القطري بعد ذلك بطلب نصيبه من وليمة الفدية، التي بلغت 1.15 مليار دولار، ما بين رشاوى ومخصصات لميليشيات إيرانية وشخصيات إرهابية.

وعكست تقارير الصحف العالمية خلال متابعتها للقضية امتعاضاً من التمويل القطري للإرهاب، وتم تنفيذ آخر دفعات النظام القطري من الفدية وهو مبلغ 320 مليون دولار، وبعدها تم نقل المحتجزين القطريين في صباح يوم 21 أبريل 2017 إلى وزارة الاستخبارات ببغداد؛ ليحضروا مأدبة غداء، قبل أن يعودوا إلى مطار الدوحة، في الوقت الذي ذهب خلاله آلاف السوريين إلى أهوال النزوح والتهجير والتشرد.

كما انتعشت الميليشيات الإيرانية في العراق بملايين الدولارات التي تمكنها من البقاء أطول وقت ممكن لتهديد أمن المنطقة، حيث حصلت ميليشيا "حزب الله" في العراق على مبلغ 150 مليون دولار، فيما حصل زعيمها على مبلغ 25 مليون دولار، وحصلت ميليشيات سنية متطرفة على 50 مليون دولار، ووُزعت 50 مليون دولار أخرى على الشخصيات الإرهابية التي لعبت دور الوساطة واستغلت الأزمة مادياً؛ ليكون الأمر برمته انتعاشة مليارية للإرهاب الإيراني بالدول العربية.

تأثير الفدية

ومرت أسابيع قليلة حتى بدأت وسائل إعلام عالمية في الاهتمام بأكبر صفقة لدعم الإرهاب في التاريخ، واستطاعت كل من "واشنطن بوست"، ومن ثم "بي بي سي"، الوصول إلى كشف غير مسبوق عبر التقارير الاستخباراتية ومراسليهم في الشرق الأوسط، والتي فضحت تفاصيل فدية المليار دولار، وخصصت موضوعات استقصائية حتى اللحظة تستنكر تورط النظام القطري في دعم الإرهاب بأموال تمكنه من البقاء والاستشراء وتهديد أمن المنطقة والعالم أجمع.

وتبعاً لذلك، بدأت الدول العربية في اتخاذ إجراءات وقائية ضد خطر الدعم القطري للإرهاب على الأمن القومي العربي؛ فتم تشكيل "الرباعي العربي" الداعي لمكافحة الإرهاب، والذي ضم "المملكة ومصر والإمارات والبحرين"؛ ليعلن مقاطعة النظام القطري؛ وينشر قوائم بأسماء الكيانات والشخصيات القطرية المتورطة في تمويل الإرهاب، وعدداً من الإجراءات الأخرى التي استهدفت تجفيف منابع التطرف.

وعلى مدار عام كامل من موقف الدول العربية من الخطر القادم من قطر، أثبتت المقاطعة العربية جدواها بتزامنها مع تقليص عدد العمليات الإرهابية في دول الرباعي العربي والمنطقة، والتي بلغت مستوى الصفر في دول الخليج، وأيضاً مستوى ملحوظاً جداً في مصر خلال الستة أشهر الماضية مقارنة بنفس الفترة من العام الذي سبق المقاطعة، بما يؤكد أن المال السياسي القطري كان بمثابة شريان حياة للإرهاب، مكنه من أن يعيث فساداً ودماراً في الأوطان العربية.