فضيلة الفاروق

نسرد ونعدُّ عظماء الشعر القديم، ونتوقف دوما عند حدٍّ جارح يفصل الماضي «الجميل» عن حاضرنا البائس، تتشابه هذه «السّرديات» العجيبة في كل حقبة من حقب أعمارنا، وإن كنت اليوم لست صغيرة في السن، وقد عشت نصف قرن بالتمام والكمال، لهذا أعتقد أنّ شهادتي يجب أن تؤخذ في الحسبان، فنحن في خلال هذا الكرنفال المتكرر ننسف بقدراتنا الإبداعية التي بين أيدينا، وكأنّها غير موجودة، كوننا ننسف الحاضر بكل موجوداته، وكأننا تلك الأم المفجوعة بموت ابن لها، فتبكيه بمناسبة وغير مناسبة، مرددة أنها فقدت أقرب أبنائها إلى نفسها، والأفضل والأحلى والأغلى، وهي بذلك تنسف بأبنائها العشرة الباقين على قيد الحياة.

صحيح قد تكون هذه المقارنة مجحفة نوعا ما، لكن المبالغة في التعلّق بما فقدناه لعجيب تفسيره، فقد ارتبط الأدب دوما بذائقة القرّاء، وهي ارتبطت بالسّائد من ثقافةٍ وعاداتٍ وتقاليدَ، وأجواء عامّة أهمها الأجواء السياسية، لهذا انتعش الشعر أيام كان سوق عكاظ مسرحا شعريا مباشرا، يلتقي فيه الشعراء والمتلقون وجها لوجه، وذاك الزمن انقرض مع عدّته، على الأقل عندنا، وقد خلفه زمن آخر، كانت فيه الكلمة ثمينة، إلى أن ارتفعت لغة الأسلحة ففقدت الكلمة قيمتها، فمرت حقبات زمنية سادها الصمت الذي فرضته الحروب، وهو نفسه الصمت الذي جعل معاصري كل حقبة يعتقدون أن أدب الماضي أفضل من أدب الحاضر، مع أنه ما من سبب آخر أدى إلى إفقار الأدب غير الظروف السياسية، وما تلاها من إخلال أمني وتراجع في مناهج الدراسة.

ثم إن أهم عنصر لخلق أدب جيد، هو التجدد، ما نعني به ابتكار أساليب جديدة للتعبير، وحبك أنسجة لغوية مختلفة، وكوننا نقبع في قالب الماضي فحتما لن نصمد فيه، فالزمن لا يأبه بنا، فيما التغيرات تعصف بكل شيء حولنا، حتى أبناؤنا الذين ننجبهم يبدأون بالاختلاف عنا كلما كبروا، وأحيانا حين نعتقد أنهم يشبهوننا لدرجة التطابق، فإنّما ذلك نابع من شعور عاطفي لا من تطابق فعلي. ما يجعل حياتنا جميلة، حين ننجب أبناء مجتهدين، هو ابتكارهم طريقتهم الخاصة للتميز.

كثر هم كتابنا الذين زج بهم الإعلام في قوالب غيرهم، لدرجة أنهم فضلوا الصمت أو الابتعاد تماما عن دائرة الضوء حتى تتوقف تلك المقارنة القاتلة بينهم وبين «القوالب» المعتمدة، فقد أتعبتهم حياة الظل تلك تحت أغصان الشجرة العتيقة، التي ما عادت تثمر لكنّها تحجب الشمس عنهم طيلة الوقت، وبشكل مستمر.

في الغالب هذا مرض ابتُلينا به؛ لأننا لا نقرأ الكاتب بل نقارنه، معتقدين أننا نقيّمه، فيما تلك أفضل طريقة لتحنيط موهبته، ورميها في تابوت إلى أن تحين ساعة موته الحقيقية.