مونديال 2018: حين يزداد العدل في عالم يسوده الظلم

وحيد عبدالمجيد 

لم يبالغ السكرتير العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي أنان في المقارنة التي أجراها قبل 12 عاماً بين مستوى العدل في مسابقات كرة القدم، وفي العلاقات الدولية. قال أنان، في كلمة وجهها عشية افتتاح مونديال 2006 في ألمانيا، إن لعبة كرة القدم تتوافر فيها مساواة بين الدول في تنافس تحكمه قواعد عادلة، وعبر عن أمله بأن تحذو العلاقات الدولية حذوها.


وإذا نحينا جانباً حال الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا»، والفساد المعشش في دولاب عمله وطريقة إدارته، وركزنا على ما يحدث داخل المستطيل الأخضر، نجد أن مسابقات كرة القدم عرفت على مدى ما يقرب من قرن مستوى من العدل يندر مثله في عالمنا عموماً، وليس في العلاقات بين دوله فقط.

اللعبة مثيرة وجاذبة. لها سحرها الخاص الذي يأسر مليارات البشر، ليس للاستمتاع باللعب حين يكون جميلاً فقط، أو لتشجيع فريق أو منتخب فحسب، ولكن لأن معظم الناس يفتقرون في حياتهم إلى الفرص المتكافئة التي تتوافر فيها. إنهم يحلمون، عبرها، بعدل تتفاوت حظوظهم منه باختلاف بلدانهم، وتباين أوضاعهم ومراكزهم الاجتماعية في بعض الأحوال.

غير أن العدل، الذي تحققه لعبة كرة القدم أكثر من أي مجال آخر في حياة البشر، ظل مشوباً بشكاوى الخاسرين في بعض المباريات من ظلم رأوا أنه تسبب في هزيمتهم. بعض من اشتكوا، وربما الكثير منهم، حاولوا تبرير إخفاقاتهم، وتعليقها على شماعة، مثلما يفعل الفاشلون في الأوساط السياسية.

ولكن بعضاً آخر منهم، كانوا على حق، لأن العدل في إدارة المباريات يعتمد بالأساس على تقديرات أشخاص يمكن أن يُصيبوا أو يخطئوا. الحكام الذين يديرون هذه المباريات بشر يجتهدون، ويتوقف أداؤهم على قدرة كل منهم وخبرته ولياقته، فضلاً عن مستوى تركيزه الذي قد يقل في هذه المباراة أو تلك. كما أن بعض الحكام قد يتحيز، إما لميل إلى منتخبات أو فرق أندية معينة في بعض المباريات، أو لتلقي رشى. ولا ينسى محبو هذه اللعبة الصدمة التي ترتبت على إعلان تفاصيل فضيحة فساد بعض الحكام، والمسؤولين في أندية رياضية، في الدوري الإيطالي «الكالتشيو»، في الوقت الذي كان منتخب بلدهم قد نال لتوه لقب بطل كأس العالم في مونديال 2006.

غير أن أخطاء الحكام غير المقصودة ظلت هي الأكثر عدداً. ولم يمح الزمن بعض أهمها من الأذهان، مثل الهدف غير الصحيح الذي أسهم في حصول انكلترا على لقب بطل المونديال في 1966 للمرة الأولى، والأخيرة، حتى الآن. وقد ظل ذلك الهدف موضع جدل حول خطأ قرار الحكم في شأنه أو صحته، إلى أن حسمه في 2009 اللاعب الذي «أحرزه» هاغيوف هيرست عندما قال إنه ليس واثقاً من أن الكرة التي سددها، وارتطمت بالعارضة وسقطت على الأرض، قد تجاوزت خط مرمى المنتخب الألماني، وأنه فوجئ يومها بقرار الحكم. كما لا يُنسى الهدف الذي سجله نجم الأرجنتين دييغو مارادونا في مونديال 1986، واعترف بأنه لعب الكرة بيده، قائلاً في مزيج من العبث والسخرية إن «يد الرب» كانت معه.

وإذا كان احتساب أهداف غير صحيحة، أو العكس، مصدراً للشك في مدى العدل في كرة القدم، فقد ظلت ضربات الجزاء المعضلة الأكبر، والأكثر صعوبة، في طريق تحقيق مزيد منه. ويكفي خطأ واحد يقع فيه حكم، فيقرر احتساب ضربة جزاء غير مستحقة، أو يتغاضى عن أخرى صحيحة، لحسم نتيجة مباراة، بل بطولة مسابقة كاملة لمصلحة من لا يستحق.

لذا أثار قرار «الفيفا»، تطبيق نظام الحكم المساعد بواسطة الفيديوVAR) Video Assistance Referee)، في مونديال روسيا جدلاً واسعاً حول مدى مساهمة هذا التطور الكبير في تقليل الظلم، والتقدم باتجاه مزيد من العدل.

كان القرار شجاعاً من زاوية محاولة الانتصار للعدل. يشبه نظام VAR محكمة نقض أو تمييز، ولكن الحُكم فيها يظل للقاضي (الحكم) الذي أصدر الحُكم السابق، بعد أن يشاهد اللعبة التي لم يتأكد مما حدث فيها عبر الفيديو، إذ يبقى القرار بيده في نهاية الأمر، إما لتأكيد قرار اتخذه أو لتغييره.

ويكون اللجوء إلى هذا النظام في إحدى أربع حالات على سبيل الحصر، وهي ضربة الجزاء، والهدف، واستحقاق لاعب بطاقة حمراء، وهوية اللاعب الذي يستحق العقاب. وكان استخدامها في التأكد من ضربات الجزاء الأكثر تكراراً في مونديال روسيا منذ يومه الثاني, عندما لجأ الحكم إليه للتأكد من قراره احتساب ضربة جزاء لمصلحة منتخب البرتغال أمام نظيره الأسباني.

وعلى رغم الجدل الذي لم يتوقف، خلال المونديال وحتى اليوم، حول جدوى نظام VAR، فقد ثبت أنه أدى إلى تقليص نسبة أخطاء الحكام من 5 في المئة في المتوسط العام إلى أقل من 1 في المئة، وفق دراسة أعدتها لجنة التحكيم في «الفيفا» عن مباريات الدور الأول (المجموعات). غير أن هذا النظام يظل في حاجة إلى تطوير لضبط معايير استخدامه، لكي لا يظل استخدامه رهناً بإدراك الحكم أو شعوره بأن هناك ما يوجب اللجوء إليه من عدمه.

ويمكن التفكير في تطوير VAR، في أحد اتجاهين. الأول إلزام حكم المباراة بمشاهدة اللعبة كلما أخبره طاقم حكم الفيديو المساعد بوجود ما يستحق مراجعته. والثاني منح قائد كل من الفريقين الحق في طلب اللجوء إلى هذا النظام، في لعبة واحدة طول المباراة، حين لا ينبهه إليها طاقم حكم الفيديو المساعد، أو إذا تغاضى عن هذا التنبيه.

وربما يكون الاتجاه الثاني أفضل لأن إلزام الحكم بما يراه الطاقم المساعد بواسطة الفيديو يُنقص دوره، ويمكن أن يعطل المباراة مرات، ويطيل بالتالي أمدها، إلى أن يعتاد الحكام على هذا النظام ويتقنوه فيصبح استخدامه أكثر سرعة وكفاية.

والمهم، في هذا كله، أن تعميم نظام VAR في مختلف مسابقات كرة القدم يمكن أن يجعل هذه اللعبة نموذجاً فريداً لعدل يزداد في ملاعب الكرة، فيما يشهد العالم في مرحلته الراهنة تراجعاً قيمياً وأخلاقياً يجعل الظلم فيه أكثر فداحة من أي وقت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.