"أنقذوا حلب..." هذه العبارة تجتاح خلال هذه الأيام وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أقطار العالم العربي و الإسلامي،دون أن نعرف من الذي بيده إنقاذ حلب و إخراجها من هذا الجحيم .. فهل هذه الدعوات موجهة إلي الحكام العرب و المسلمين، أم موجة لحكام أمريكا و روسيا و الصين و أوروبا؟

و بغض النظر عن المرسل إليه بهذه الاستغاثة فإننا نؤكد تضامننا المطلق مع أهل حلب و ما تتعرض إليه هذه الحاضرة الإسلامية من تدمير وتنكيل بأهلها، و ليس بيدنا - كمثقفين و أهل فكر- إلا أقلامنا للتعبير عن حزننا و أسفا الشديد لحجم المآسي و الآلام التي أصابت إخوتنا في حلب خاصة و سورية عامة.

وفي مقال سابق لنا بعنوان " حلب مأساة أمة تبحث عن ذاتها.." أشرنا إلى أن مأساة حلب هي مأساة العديد من المدن العربية و الإسلامية ، فحلب تذكرنا ببغداد و بيروت و طرابلس و مقديشو و عدن و البوسنة و الهرسك و الشيشان و كابل وغزة...واللائحة طويلة، فكل هذه الحواضر قاسمها المشترك إما العروبة و إما الإسلام ...والجناة اختلفوا تبعا للمدن، لكن اشتركوا في مبررات ارتكاب جرائم الإبادة و التدمير، فالمبرر الأكثر شيوعا مكافحة الإرهاب و حصار الأصولية الإسلامية..

في مقالنا هذا لا نريد البكاء على أطلال و أشلاء هذه المدن وشهداءها، فذاك الأمر لم يعد مجدياً، فالأمة بحاجة اليوم إلىبدائل واقعية توقف مسلسل التردي و التفكك و الانبطاح للأجنبي، و عليه سنحاول من خلال مقالنا هذا تحليل البدائل المتاحة و حتى لا يكون كلامنا طوباوياًً، فإننا سنعمل على تبني أسلوب المقارنة الأفقية و العمودية لنقارب الظاهرة التي نحن بصدد دراساتها.و عليه سنعتمد الدورة الزمنية لتحديث الصين كنموذح للمقارنة، بحكم تقارب التجربتين فكلا الأمتين عرفت إشعاعا حضاريا، ثم دخلت في انتكاس حضاري.

فواقع الأمة العربية والإسلامية ليس بالواقع الفريد في سجل التاريخ، فالعديد من الأمم والشعوب دخلت في دورات من التخلف و التفكك و التيه، فالصين لم تصل لما وصلت إليه اليوم، إلا بعد قرن ونيف من التفكك و الاقتتال الداخلي، فمن الحرب الصينية اليابانية الأولي سنة 1894- 1895، والتي انتهت بانهزام ساحق للجيش الصيني أمام اليابان، ثم "حروب الأفيون" عام 1840 أمام القوي الغربية و التي فتحت البلاد للتدخل الأجنبي مرورا بالقلاقل و الثورات الشعبية لاسيما حركة 4 مايو 1919 التي أسقطت أخر إمبراطور و إعلان قيام الجمهورية بقيادة "صن" . 

فهذه الحروب حطمت عزلة الصين، وكسرت أسوارها وفتحت أبوابها قسرا. وهو مانجم عنه رد فعل تكييفي وتوفيقي، أكثر مما هو رد فعل رافض لثمار الحداثة. فحركة 4 مايو جعلت النخبة الصينية تدخل في جدل ومساومات مع الوافد الجديد " الحداثة" بصالحها وطالحها، و امتد هذا الجدل إلى مطلع 1978، حيث تشكل وعي قومي بضرورة تحديث وعصرنة الأمة. 

نفس السيناريو الصيني مرت منه الأمة العربية والإسلامية ، فالقوى الأجنبية -الأوروبية تحديدا- كانت باعثا على نهضة الأمة العربية والإسلامية من سباتها ، فانكسار المسلمين أمام جيوش نابليون و جيوش بريطانيا العظمي دفع العديد من العلماء و المثقفين إلى طرح سؤال لماذا تأخرنا و تقدم غيرنا؟ فظهر تبعا لذلك، رواد حركة النهضة من أمثال "جمال الدين الأفغاني" و "محمد عبده" و "شكيب أرسلان" و غيرهم ، الذين حاولوا تشخيص داء الأمة و تحديد دواءها، وإذا كانت الصين قد استطاعت الخروج من كبوتها خاصة بعد سياسة الإصلاح لما بعد 1979، فإن الأمة العربية والإسلامية لازالت على تفككها و نكوصها الحضاري، فما السبب في تأخرنا و تقدم غيرنا؟

نفس السؤال الذي طرحه أسلافنا نعاود طرحه اليوم، بل نفس المآسي التي عرفتها الأمة منذ منتصف القرن 19م، تتكرر بنفس الدموية وعلى يد نفس الجناة، بل و تستمر نفس الأسباب و العلل فإذا كانت الفرقة سببا لسقوط الخلافة الإسلامية وتفكك وحدة المسلمين، فاليوم أيضا ضعف الحكام و تفرقهم كان أهم أسبابسقوط الحواضر العربية و الإسلامية واحدة تلو الأخرى.

 

فالحواضر العربية أصبحت تتساقط تباعا وليس من المستبعد أن تتعرض غداً مدينة رسول الله أو مكة المكرمة للقصف..فماذا لوحصل فعلا ما نخشاه، لاسيما أن مؤشرات حدوثه قد أصبحت جد متداولة لدى بعض خصوم الأمة ؟. فالمنطقة العربية أصبحت لعبة شطرنج بين القوى الإقليمية و الدولية، الكل يحاول تصفية حساباته و تحقيق مكاسب إستراتيجية على حساب الدم و العرض العربي و الإسلامي. فكما هو معلوم في قوانين الفيزياء أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فضعف الأنظمة العربية و تشردمها و دخولها في نزاعات على منوال "ملوك الطوائف" جعل المنطقة فاشلة و شديدة الهشاشة...

إن تخلف الأمة و انحدارها يعود بدرجة أساسية إلي غياب المشروع الحضاري الجامع، فالأمة تسير على غير هدى، و لعل هذا الغياب نتيجة طبيعية للاستبداد السياسي الذي جثم على الأمة، فأوقف شريان التجديد و البعث الحضاري، وكبل حركة الإبداع الفردي و الجماعي. فالتحدي الأول الذي يواجه الأمة هو التحرر من قيود الاستبداد السياسي، فمجتمع العبودية ، لن يكون مبدعا لا في الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة...

 

وبوابة التحرر ووقف مسار تفتيت المفتت و تدمير المدمر، تحتاج في الوقت الحاضر إلى حزمة إجراءات، أهمها :

أولا- التكتل الإقليمي، و نبذ الخلافات بين البلاد العربية و الإسلامية، فمن العبث الاستمرار في نفس السياسات القطرية الضيقة الأفق، و التي لم تنتج إلا ما أسلفنا ذكره من دمار و عنف و تخلف. فعلى الرغم من محدودية التكتلات الإقليمية القائمة، إلا أنه لامناص من العودة لهذه التكتلات الإقليمية و إعادة ترميمها و تفعيل أداءها، لحل النزاعات البينية وتنسيق الجهود لمواجهة العالم الخارجي، فمواجهة دول كأمريكا و روسيا و حتى إيران بشكل قطري لا يجدي، و في الوقت الراهن هناك تكتلين لابد من دعمهما الأول: تكتل مجلس التعاون الخليجي ، و الثاني تكتل المغرب العربي + مصر .

ولنا في تجربة الصين -التي جعلنها نموذجا للمقارنة - العديد من العبر، فانطلاقة الصين بدأت بتحول في السياسة الخارجية، إذ تبنت الحكومة الصينية بعد 1977 سياسة تعايش سلمي مع اليابان و الهند و هما أعداء تقليدين للصين، فتم تغليب كفة المصالح، وهو ما أسفر عن خلق بيئة سلمية ساعدت على تحقيق التنمية و أوقفت سباق التسلح لاسيما بين الصين والهند. نفس التوجه البرغماتي "الصينو-هندي"، نتمنى لو يطبع سياسة الإخوة العرب الأعداء ، فلامانع مثلا من تطبيع العلاقات بين المغرب و الجزائر و إعادة إحياء تكتل المغرب العربي، فحالة الحرب الباردة تكلف كلا البلدين وتعيق مسار التنمية بالمنطقة ككل وعملية تكديس الأسلحة المستفيد الوحيد منها هم موردي السلاح (=الغرب) . دون أن نهمل أهمية الاستعانة بالتكتل العربي الإسلامي فبلدان كتركيا و أندونيسا و ماليزيا و نيجيريا ذات الأوزان الديموغرافية والاقتصادية المهمة، يمكن أنتلعب دورا هاما في تحصين المنطقة العربية استنادا إلى رابطة الدين و لما لا المصالح .

ثانيا- المصالحة بين الشعوب و حكامها ، فحالة الدمار الذي تتعرض له حلب و غيرها من المدن العربية هو نتيجة طبيعية لغياب الديمقراطية و الحريات المدنية والسياسية، فالاستبداد و غلق بوابات التغيير و التعبير السلمي ولد حالة من التطرف و العنف تم تأجيجها بالتدخل الأجنبي في النزاعات الداخلية . فتغييب إرادة الشعوب و الانقلاب على اختياراتها أفرز أنظمة سياسية ضعيفة و منعزلة عن قواعدها الشعبية، لذلك فإن الإنصات إلى صوت و تطلعات الشعوب هو أقرب طريق لحماية و تحصين الأوطان.

وتعد هذه إجراءات الحد الأدنى الذي لابد منه لوقف عملية نزيف الأمة وحواضرها، فالتحدي الرئيس هو وقف شلال الدم و تغليب لغة الحوار على الحديد والنار. فتقاتل الإخوة وشركاء الوطن في حلب وغيرها من الحواضر العربية و الإسلامية، ليس فيه منتصر فالكل منهزم، فتدمير الأوطان هزيمة لا يقابلها أي نصر مزيف...

 

 

 

*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي .

[email protected]