هناك كم هائل من التحليلات حول ما تشهده المنطقة من تغيرات استراتيجية فارقة في المرحلة الراهنة، حيث تبرز في هذا الإطار ملامح عدة: هناك إدارة أمريكية جديدة، روسيا تسعى إلى تكريس دورها الشرق أوسطي عبر البوابة السورية، بريطانيا عادت إلى المنطقة بقوة عبر بوابة قمة المنامة التي عقدها قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مؤخراً في العاصمة البحرينية، فرنسا موجودة بقوة في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، إيران تحاول إحياء طموحات توسعية بأدوات عفا عليها الزمن، تركيا تسعى إلى إعادة هندسة دورها الجيوسياسي، بعد ظهور تباينات مصالح استراتيجية عميقة مع الحليف الأطلسي الأمريكي.

باختصار، هناك لعبة اقليمية جديدة تجري على أرض الواقع، والمؤكد أن دول مجلس التعاون تدرك ابعاد هذه اللعبة، حيث ظهر ذلك جلياً في قمة المنامة التي عقدت مؤخراً.

صحيح أن هناك عدم اتفاق كامل حول الطرح السعودي الخاص بصيغة الاتحاد بين دول مجلس التعاون، ولكن التباين القائم في وجهات النظر هو تباين صحي، فالمسألة تستحق أن تأخذ وقتها من الدراسة والبحث كي لا تتحول من فرصة إلى تحد، لاسيما أن دول مجلس التعاون تجمعها روابط استراتيجية قائمة بالفعل، وتحقق لها قدر عال من التماسك والترابط في مواجهة الأنواء والمتغيرات الاقليمية والدولية السائدة، ناهيك عن أن دول التعاون ذاتها، وفي مقدمتها، المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة، تؤمن بضرورة التصدي لأي تهديد أو خطر يواجه أي من دول المجلس أو يمس مكتسبات شعوبه وأمنها واستقرارها، وقد اثبتت الدولتان قناعتهما بذلك وحفاظهما على قدر عميق من التكاتف والتعاون ترجمة لهذه القناعة المتجذرة.

دول مجلس التعاون حققت في الملف اليمني الكثير من الانجازات الاستراتيجية، أكثرها أهمية الحيلولة دون سيطرة إيران عبر وكلائها على هذا البلد العريق، حيث استهدف الملالي تطويق دول مجلس التعاون استراتيجياً عبر نقاط تمركز في الشمال والجنوب، ولكن مخططهم فشل بسبب يقظة دول التحالف العربية وتحركها السريع والفاعل عبر "عاصفة الحزم" ثم "إعادة الأمال"، وتسعى هذه الدول الآن للبحث عن صيغة تسوية تعيد للشعب اليمني الشقيق الأمن والاستقرار، ولكن حلفاء إيران ووكلائها يرفضون، ويتمسكون باستراتيجية مدمرة تستهدف استنزاف دول التحالف العربي، من دون أي مراعاة لتأثير عامل الوقت على الشعب اليمني، الذي يعني بالفعل آثار ما فعلته جماعة الحوثي الباغية وحلفائها من اتباع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح طيلة الفترة الماضية من عنف ودمار.

بالنسبة للملفات الاقليمية الأخرى، هناك حالة من الترقب بانتظار تسليم الإدارة الأمريكية الجديدة السلطة في يناير المقبل، ولكن الأحداث لا تتوقف، فقد شهدت قمة المنامة عودة قوية لبريطانيا إلى منطقة الخليج العربي، حيث شاركت رئيسة وزراء بريطانيا تريزا ماي، في قمة "التعاون"، والتي استغلت الفرصة وشددت على أن "أمن الخليج يعني أيضاً أمن بريطانيا"، لتضع بذلك قاعدة جديدة في المعادلات الاستراتيجية المتعلقة بأمن منطقة الخليج العربي، حيث بات هناك التزام بريطاني قوي بأمن هذه المنطقة ودولها، وهذا لا يعني بالتبعية غياب أو تقليص للدور الأمريكي كما يتصور البعض.

علاقات بريطانيا بالولايات المتحدة استراتيجياً طيلة الأعوام الماضية عميقة، فهما شريكان في معالجة جميع أزمات المنطقة، وبالتالي من غير الدقيق أن يفسر الدور البريطاني الجديد باعتباره بديلاً للدور الأمريكي، ولكن ماحدث أن هناك شراكة بريطانية ـ خليجية جديدة، وهناك تعهد مشترك بمكافحة الارهاب.

هذا الأمر يعني الكثير بالنسبة لدول مجلس التعاون، فبريطانيا ظلت لعقود تتهم باستضافة قيادات بعض تنظيمات الارهاب، مثل جماعة الاخوان المسلمين وغيرهم، ولم تفلح الجهود التي بذلت من قبل في اقناع الجانب البريطاني بانهاء هذه العلاقة التي تؤثر سلباً في علاقات الكثير من الدول العربية المتضررة من الارهاب مع بريطانيا.

الآن، من الممكن تدشين حوار جديد بين دول مجلس التعاون وبريطانيا حول التعامل مع تنظيمات الارهاب، وتفكيك العلاقة الملتبسة بين استضافة بعض قيادات هذه التنظيمات من ناحية وحقوق الانسان والحريات من ناحية ثانية.

وجهة نظري، أن بريطانيا تدرك حساسية المرحلة المقبلة في منطقة الشرق الأوسط، ولا تريد أن تترك مجالاً لروسيا كي تتحرك بحرية في هذه المنطقة الحيوية من العالم، كما تدرك أن الإدارة الأمريكية الجديدة ربما لا تراعي مصالح بريطانيا الاستراتيجية كما كان الحال في السابق.

وزير خارجية مملكة البحرين، نفى صراحة عقب القمة أن تكون الشراكة الاستراتيجية التي أطلقتها قمة المنامة مع الحكومة البريطانية على حساب ما وصفه بـ "العلاقات المتميزة مع الولايات المتحدة الأميركية"، وهذا صحيح، فمن الصعب القول بانتهاء عصر الشراكة الخليجية ـ الأمريكية، بل الأقرب للتصور هو وضع قواعد جديدة لهذه الشراكة، أو إعادة صياغتها وفق تصورات الإدارة الأمريكية الجديدة.

اثق أن دول مجلس التعاون منتبهة لقواعد العبة الاقليمية الجديدة، وتعي مايدور من حولها من تغيرات استراتيجية متسارعة، وتدرك أن مجمل هذه التغيرات تفرز عليها تأثيرات سلبية عدة، ولكن هدوء وتريث هذه الدول يجعلني أشعر بالتفاؤل حيال إدارة هذا الواقع الاستراتيجي المعقد بكفاءة من جانب قادة دول التعاون.