ماليس أعجب من أن عامة الشيوعيين – خليك عن غير الشيوعيين - في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين وحتى اليوم يعتبرون ثورة أكتوبر وكأن لم تكن !! ففي مناظرة مع أحد ثقات الماركسية أنكر هذا الثقة إنهيار النظام الرأسمالي في سبعينيات القرن المنصرم مدعياً أن النظام الرأسمالي ما زال قائماً بل إزداد توحشاً ودلل على ذلك بالعدوانية الأميركية سواء باحتلال أفغانسيتان أو العراق أو ليبيا وقبل كل ذلك يوغوسلافيا . هذا الرجل الماركسي الثقة المخضرم لا يحسن قراءة التاريخ قراءة علمية موضوعية وهو بالتالي اعتبر ثورة أكتوبر التي امتلكت أزمّة العالم طيلة القرن العشرين – وما تزال - وكأن لم تكن ومع ذلك يعتبر نفسه الثقة الذي ما بعده ثقة آخر في علوم الماركسية رغم أنه يرى بأم العين أن أميركا لا تحتل أياً من تلك الدول التي عددها بل ترفض رفضاً قاطعا بقاء قواتها فيها .

ثورة أكتوبر التي تجند لها الملايين من البروليتاريا الروسية والفلاحين الفقراء استطاعت في العام 1918 أن تلغي تماماً طبقة البورجوازية الروسية من المجتمع الروسي وهي التي رفعت السلاح بوجه الثورة . وفي الأعوام الثلاث التالية 1919 و 20 و 21 سحقت قوى الثورة تسعة عشر جيشاً أجنبياً أرسلتها أربع عشرة دولة رأسمالية إمبريالية لخنق البولشفية في مهدها بتعبير وزير الحرب البريطاني ونستون تشيرتشل . ولذلك قال لينين مفتتحاً الجلسة التأسيسية للأممية الشيوعية في مارس 1919، قال .." أن الثورة الشيوعية العالمية غدت مضمونة النجاح " . فهل يعتقد عامة الشيوعيين اليوم أن لينين كان على خطأ طالما أنهم يعتقدون أن ثورة أكتوبر الشيوعية وكأنها لم تكن، وأن الرأسمالية العالمية باتت أكثر وحشية منها في الحرب العالمية الأولى !؟

في العام 1922 كانت الشعوب السوفياتية تبيت على الطوى بتصريح للينين، وخلال خمس عشرة سنة من العمل الاشتراكي السلمي، غبر المستقر تماماً، غدا الاتحاد السوفياتي في العام 1938 أقوى دولة في العالم واجه إذاك مؤامرة كبرى حاكتها الدولتان الامبرياليتان، فرنسا وبريطانيا بمشاركة ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية فيما وصف بمؤتمر الترضية (Appeasement)، ترضية هتلر وموسوليني، في ميونخ في 30 سبتمبر 1938 .

بدأ هتلر تطبيق المؤامرة باحتلال بولندا توطئة لإحتلال الاتحاد السوفياتي وهو ما استتبع احتلال فرنسا وطرد بريطانيا من القارة الاوروبية . في الساعات الأولى من 22 يونيو 1941 دخلت الحدود السوفياتية 180 فرقة هتلرية أي حوالي 3 ملايين جندياً في غزو الاتحاد السوفياتي . وصل الغزو الهتلري لأسوار موسكو خلال ثلاثة شهور فقط وذلك بسبب الجيوش السوفياتية قليلة الخبرة في الحرب كما أكد ستالين لمبعوث الرئيس الأميركي أفريل هاريمان، ولأن الاتحاد السوفياتي أُخِذ على حين غرة في مخالفة لاتفاقية عدم الاعتداء المعقودة بين الطرفين . ما يعنينا هنا هو أن الحرب على النازية المسلحة حتى الأسنان وقع على كاهل الاتحاد السوفياتي وحده وبقيت الدول العظمى الثلاث بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا تحارب جيوش إيطاليا على شواطئ المتوسط طيلة سنوات الحرب العظمى الخمسة، ولم تحارب معركة واحدة ضد ألمانيا، بل أكثر من ذلك فحين قامت بإنزال النورماندي في 6 يونيو 1944 حين باتت هزيمة ألمانيا أمراً مؤكدا، وبعد تهديد الجنرال ايزنهاور بالإستقالة إذا لم تفتتح الجبهة الغربية، وهو إنزال هزيل لم يصل 200 ألف جنديا احتاجت هذه القوات الحماية من الجيوش السوفياتية حين تهددتها الإبادة التامة في جبال الجاردنز الفرنسية، ولم تدخل في أية معركة ذات أهمية ضد ألمانيا – حسناً نزلوا في النورماندي، وماذا فعلوا في الحرب !؟ .. لا شيء، لا شيء على الإطلاق .

في مايو 1945 احتلت الجيوش السوفياتية برلين وكان تعدادها 3 ملايين جنديا وخلفهم 3.5 مليون جندياً بعد أن فقد الاتحاد السوفياتي 9 ملايين جندياً، بينما كان مجموع الجبهة الغربية أقل من 0.7 مليون معسكرين بعيداً عن برلين مع الفارق النوعي في الأسلحة . وفي أوغست بعد إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي كان من الممكن أن تحتل اليابان الولايات المتحدة الأميركية لولا المساعدة السوفياتية وسحق كامل الجيوش البرية لليابان في منشوريا ؛ لم تستسلم اليابان قبل الثاني من سبتمبر 1945 ؛ حاربت اليابان أكبر دولتين في العالم في نفس الوقت، الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي، ما بين 9 أوغست يوم إلقاء القنبلة الذرية الثانية على ناغازاكي و 2 سبتمبر يوم الاستسلام، وهو ما يؤكد بطلان الإدعاء بأن اليابان استسلمت بفعل القنبلتين الذريتين .

بعد الحرب بدأ الاتحاد السوفياتي حملة إعادة تعمير ما هدمته الحرب وكان أعظم من أن يُقاس ؛ تلك الحملة التي أدهشت كل العالم ومنه غورباتشوف الذي شبه الاتحاد السوفياتي في تلك الحملة في كتابه "البريسترويكا" بخلية نحل لا تهدأ ليلاً ونهاراً ولم يجد تفسيراً لذلك سوى الإدعاء بأن البلاشفة الأوائل لم يكونوا من أهل الأرض تبعتهم الشعوب السوفياتية بأمل خلق عالم فانتازي (!) هو الشيوعية . تم تعمير الاتحاد السوفياتي لآفضل مما كان خلال أربع سنوات فقط بما في ذلك معالجة كل قضايا تقطيع الصلات العائلية من فقدان الزوج والأب والابن والأم .

في العام 1951 قرر الحزب الشيوعي بقيادة ستالين خطة التنمية الخماسية الخامسة التي كانت ستجعل من الاتحاد السوفياتي أمثولة في الرفاه والتنمية، وكان ستالين قد تحدى الدول الغربية لدى تشكيل حلف شمال الأطلسي مؤكداً أن الاتحاد السةفياتي لا يسبقهم في الحرب فقط بل سيسبقهم أكثر في المنافسة السلمية . كان الهدف الأساس في خطة ستالين الخمسية الخامسة ليس فقط رفاه الشعوب السوفياتية بل تقليم أظافر البورجوازية الوضيعة السوفياتية التي تقدمت الصفوف في الحرب وتبوأ آلاف المارشالات والجنرالات مراكز اجتماعية من الصعب تجريدهم منها بعد أن كانوا من أسباب الانتصار على النازية . كانت الخطة ستضاعف من قوى الانتاج التي هي عماد عبور الاشتراكية .

بدا حينذاك أن البورجوازية الوضيعة السوفياتية بقيادة العسكر تنبهت لمخططات ستالين في تجريدها من مكانتها الاجتماعية المتميزة لصالح البروليتاريا التي تكبدت معظم خسائر الحرب وتراجع دورها القيادي ؛ فكان أن شدت الرحال لإلغاء أو تعطيل مخطط ستالين المتمثل بالخطة الخماسية وهو أمر لا يمكن تحقيقه بوجود ستالين الذي امتلك قوة قيادية غير مسبوقة في المجتمع السوفياتي وفي التاريخ . ستالين الحارس البقظ لأمن الثورة ومسار تقدمها خانته اليقظة عندما سمح لوزير الأمن لافرنتي بيريا المشبوه بدوره في مؤامرة الأطباء اليهود في الكرملين أن ينجح في أن يدس له السم في شرابه في عشاء 28 فبراير 1953 وبذلك كان اغتيال ستالين هو الضمانة لنجاح البورجوازية الوضيعة في الانقلاب على الاشتراكية . 

بعد ساعات قليلة من وفاة ستالين اجتمع أعضاء المكتب السياسي العجزة السبعة الذين كان ستالين قد طالب بتنحيتهم وقرروا طرد 12 عضوا جديدا في الكتب السياسي كان المؤتمر العام للحزب قد عينهم . وبعد ستة أشهر قرر هؤلاء المنحرفون إلغاء الخطة الخمسية وتحويل الأموال المرصودة لصناعة الأسلحة . وفي يونيو 1957 دبر خروشتشوف بالتعاون مع صديقه وزير الدفاع المارشال جيورجي جوكوف إنقلاياً عسكرياً ضد الحزب وطرد سبعة أعضاء من المكتب السياسي والإبقاء على اثنين فقط ! وفي فيراير 1961 قرر خروشتشوف إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا لتحل محلها ما سمي "دولة الشعب كله" تقليداً للدول البورجوازية، كما قرر الإستقلال المالي لمؤسسة الإنتاج . وهكذا لم يبقَ من خصائص الإشتراكية خصيصة واحدة . فالإتحاد المسمى "إتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية" إنقلب فعلاً إلى "إتحاد الجمهوريات البورجوازية الوضيعة" فيما بعد العام 1953 . وهو الإتحاد الذي لا مبرر لوجوده فكان أن تفكك في العام 1991 .

لم يكن لينين يضرب بالغيب حين أكد في العام 1919 أن الثورة الشيوعية العالمية قد غدت مضمونة النجاح . كانت الدول الإمبريالية قد استنفذت كل قواها في الحرب العالمية الأولى في حين قوى البروليتاريا في العالم تنامت وازدادت قواها كما في روسيا . وقد أثبتت حروب التدخل 1919 – 1921 صحة الرؤية اللينينية حيث نجحت البروليتاريا الروسية في قهر 19 جيشاً جندتها الدول الامبريالية لخنق البولشفية في مهدها . انتصرت البروليتاريا الروسية دون أن يكون لها جيش أو السلاح الموازي أو حتى الخبز . كان المشروع اللينيني هو الإبن الشرعي للتاريخ وعبثاً يصار إلى القفز عته . منذ أن لحقت بالرأسمالية الإمبريالية العالمية الهزيمة التاريخية في العام 1921 تخلت الرأسمالية الإمبريالية عن وظيفتها الأساسية المتمثلة بتطوير وتعميق الإنتاج الرأسمالي الإمبريالي وانحرفت لتكرس كل جهودها لمقاومة الشيوعية فكان بغير وعي منها مروّعة أن أقامت الفاشية في ايطاليا والاخوان المسلمين في مصر والنازية في ألمانيا وهذه التشكيلات هي بطبيعتها ضد الرأسمالية قبل أن تكون ضد الشيوعية .

 

ما بين هزيمة الإمبريالية في روسيا 1921 وحرب النازية على الإتحاد السوفياتي 1941 كانت قوى الرأسمالية الإمبريالية تتراجع وقوى الثورة الإشتراكية يالمقابل تنمو وتتعاظم . في الحرب على النازية لم تقوَ الإمبراطوريتان الإمبرياليتان، بريطانيا وفرنسا، على مواجهة ألمانيا النازية وتركتا كل الحرب على النازية للإتحاد السوفياتي . فيض القوة للنظام الإشتراكي تجلّى باحتلال ألمانيا في مايو 1945 ب 6.5 مليون جندي سوفياتي بعد فقدان 9 ملايين جندياً .

إنتهت الحرب وكان الاتحاد السوفياتي أقوى قوة في الأرض، وشهد على ذلك أول تقرير صدر عن المخابرات الأميركية (C I A) لدى تأسيسها في العام 1951 يقول أن الجيوش السوفياتية كان باستطاعتها ألا تكتفي باحتلال برلين فقط وتستمر متجهة إلى الغرب واحتلال كل اوروبا الغربية وبريطانبا حتى الوصول إلى الولايات المتحدة . فيض القوى الاشتراكية التحررية دفع يشعوب البلدان التابعة والمستعمرة للنهوض في ثورة تحرر وطني عالمية 1946 – 1972 نجحت خلالها جميع الدول المحيطية في الاستقلال ولم تعد تستقبل فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية وهو ما قضى بالإنهيار التام للتظام الرأسمالي في العالم . وهكذا تحقق الهدف الأول لمشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية وهو القضاء على النظام الرأسمالي . أن لا يرى الشيوعي هذا الأمر فذلك ليس إلا قصوراً في الوعي وقراءة التاريخ .

انهار النظام الرأسمالي في السبعينيات لكن ليس لصالح النظام الإشتراكي حيث أهل الاشتراكية كانوا قد تخلوا عنها بقيادة خروشتشوف وعصابته في الحزب الشيوعي، بل إن القيادة السوفياتية الجديدة وفي مقدمها المخابرات السوفياتية (K G B) بذلت كل الجهود لمنع النظام الإشتراكي من الإتساع والتطور على الصعيدين الوطني والعالمي فدبرت إنقلاب بومدين في الجزائر ضد بنبلا الاشتراكي في العام 1965، وانقلاب حافظ الأسد في سوريا ضد الاشتراكي صلاح جديد ورفاقه في العام 1970 .

خيانة عصابة خروشتشوف للثورة الإشتراكية استدعت خيانة أخرى تتمثل بتجاهل عامة الشيوعيين القوى التي عطلت الثورة الإشتراكية . تسأل عامة الشيوعيين المتمركسين عن القوى التي عطلت بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي فلن يجيبوك بغير "البيروقراطية"، ويذهبون بعيداً إلى تبني دعوى تروتسكي في العام 1927 تنادى بإسقاط قيادة الحزب الشيوعي البيروقراطية ! لكن لماذا ينتقل بيروقراطيو الطبقة العاملة إلى تشكيل طبقة رأسمالية ليس لها وجود في المجتمع ؟ ولماذا توافق الطبقة العاملة على مثل هذا الإنتقال المزعوم ؟ ولماذا يفصح البيروقراطي ستالين عن قلقه حول مستقبل الثورة في نوفمبر 1952 ؟ فهل كان يخشى على الثورة من نفسه !!؟

 

(يتبع)