لفت انتباهي مؤخراً، جلسات الحوار التي تعقد في العاصمة المصرية، القاهرة، بين عدد من الشباب الذين يمثلون الأطراف المعنية بالصراع في ولاية راخين ببورما، وذلك تحت عنوان جميل هو "نحو حوار انساني حضاري من أجل مواطني ـ ميانمار (بورما)". وهذه الجلسات ينظمها مجلس حكماء المسلمين، وذلك انطلاقاً من دور المجلس في العمل على نشر ثقافة السلم والتعايش في ربوع العالم كافة.

لفت انتباهي أيضاً ان هذه الجلسات تضم نخب فكرية وثقافية مستنيرة، وتنطلق من محاور هادفة تسعى إلى مناقشة سبل التعايش المشترك، والوقوف على جذور الخلاف في هذا البلد، ومحاولة وضع حلول لانهائه وترسيخ أسس المواطنة والعيش المشترك بين مواطني ميانمار.

ولاشك أن مثل هذه الجلسات تنطوي على عمل ايجابي فاعل يسعى إلى البناء واختراق ماهو قائم بحثاً عن حلول واقعية، فمن السهل إصدار بيانات الشجب والادانة، وقد صدر منها الكثير بالفعل من جهات رسمية وغير رسمية عدة في العالمين العربي والاسلامي، ولكن الصعب أن توجه الجهود إلى عمل بناء فاعل يسعى إلى اختراق جدار الصمت الذي يلتف حول الأزمات ويعزلها عن ما حولها.

موقف الأزهر الشريف في هذه الجلسات واضح وقوي، وينطلق من إدانة القتل والقتال باسم الدين أو العرق، حيث حذر فضيلة الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر من خطورة القتل والقتال باسم الدين أو العرق، مؤكداً أنها أشد فتنة وأضر على الناس وأفتك بأجسادهم وأسكب لدمائهم، مشدداً على أن الأنبياء والمرسلين لم يبعثوا للقتل ولا الاضطهاد أو التشريد.

ولاشك أن خطاب شيخ الأزهر في افتتاح هذه الجلسات يمثل وثيقة تاريخية مهمة في النظر إلى مايدور من حولنا اقليمياً ودولياً من فتن ومؤامرات وجرائم كارثية ترتكبها تنظيمات الارهاب، التي تثير الفتن والحروب والمؤامرات باسم الاسلام الحنيف، حيث أكد شيخ الأزهر "إن حكمة البوذية والهندوسية والمسيحية والإسلام تناديكم بألا تقتلوا ولا تسرقوا ولا تكذبوا وأن تلتزموا العفة ولا تشربوا المسكرات".

لاشك أننا في العالم الاسلامي بحاجة إلى الكثيرين من مثل الدكتور أحمد الطيب بعلمه سعة أفقه ورؤيته المستنيرة، التي تخاطب الجميع وتسعى إلى بناء الجسور وتجمع ولا تفرق وتبني ولا تهدم، فأحد مخارج الأوضاع المتأزمة عالمياً يكمن في لغة الحوار، التي يتبناها هذا العالم الجليل.

حين يتحدث فضيلة شيخ الأزهر عن الديانات الأخرى نلمس سماحة الاسلام وعظمته، ولا يستطيع أحد المزايدة على علم هذا الرجل العميق وفقهه الديني، وعندما يطالب فضيلته شباب ميانمار بأن يعملوا على غرس أشجار السلام ونشر ثقافة السلام، فإنه يعكس وجهاً سمحاً وحضارياً رائعاً للاسلام العظيم، الذي تحاول تشويهه ممارسات شريحة لا يمكن وصفها سوى بأنهم من الجهلاء، الذين أصابهم الغرور والطيش والغباء، ورأوا في أنفسهم مقدرة على التعبير عن هذا الدين العظيم.

قلنا، وقال الكثيرون، إننا بحاجة إلى تطوير خطابنا الديني، وقد لمست في خطاب شيخ الأزهر هذا التوجه الحميد، فالرجل يتحدث إلى شعب ميانمار ويخاطب فيهم، باسم مجلس حكماء المسلمين، النزعة الانسانية من أجل الحفاظ على مسلمي هذا البلد. وكما قلت، فليس هناك أسهل من أشعال الفتن ولا سكب الزيت على نارها، ولكن الشىء الصعب هو أن يتمترس المرء وراء الحكمة وتقيه فطنته من شر الاندفاع والحماقة، ومايفعله مجلس حكماء المسلمين إزاء أزمة مسلمي ميانمار هو احد تجليات الحكمة التي ننتظرها من هذا المجلس الموقر في أزمات كثيرة.

لاشك في أن اقرب الطرق لبناء المشتركات وردم الفجوات والحد من الخلافات والتباينات هو التفاهم والحوار حول أسباب هذه الخلافات، والسبيل لذلك لابد وأن يتم عبر أناس يدركون قيمة الحوار وأهميته، باعتبار أن الحوار ليس هدفاً بحد ذاته بل وسيلة يمكن للبشر من خلالها القفز على ما يفرقهم وصولاً إلى مايجمعهم ويوحدهم.

ربما يكون الحوار مع شباب ميانمار مقاربة جديدة في هذه الأزمة المستفحلة التي يمكن أن تتفاقم في حال تركها وشأنها من دون مثل هذه التدخلات العقلانية الحميدة، وربما يقلل البعض من شأن هذا السبيل، ولكني أثق أن مثل هذه الجهود هي البديل الموضوعي العقلاني الممكن على المدى البعيد من أجل مستقبل ملايين المسلمين في هذا البلد وغيره من البلاد. وعلى العقلاء في مجلس حكماء المسلمين وغيره من المؤسسات التي تتبنى فكراً وسطياً معتدلاً ورؤى حضارية عاكسة لسماحة الاسلام العظيم، تقع مسؤولية ضخمة كونهم يعملون وسط ظروف يطغى فيها العنف والجهل الذي تنشره تنظيمات الارهاب وأصحاب الفكر المتطرف، ولكنها مهمة سامية تسعى إلى أهداف انسانية وحضارية نبيلة، تنير دروب البشر وتحقق أهدافنا جميعاً في الزود بشكل حقيقي وجاد عن ديننا الاسلامي الحنيف، الذي نالت من صورته الذهنية ممارسات الارهاب والفكر المتطرف في السنوات الأخيرة.