رحيل فيدل كاسترو يثير تداعيات وتأملات عديدة، منها اشكال الكفاح المسلح ضد الانظمة الدكتاتورية والمسألة الديمقراطية. ونتحدث عن الاشكال، سواء ثورة شعبية مسلحة عامة كالثورة الروسية، او كفاح الانصار المسلحين (كوبا وغيفارا)، او انقلاب عسكري ثوري يدعمه الشعب، او الجمع بين اكثر من شكل مسلح واحد، علما بان هذا المقال لا يخص المقاومة المسلحة ضد الغزو الاجنبي، كالمقاومة الغربية خلال الحرب العالمية الثانية... 

في العراق مثلا، اتفق جميع الشيوعيين منذ عام 1965، بعد التخلي عن خط آب، على ان التغيير الثوري لا يتم بغير القوة المسلحة، واختلفت المواقف هنا حول من يرون الحل في ثورة شعبية مسلحة وبين من يؤمنون بانقلابعسكري، وبين من يدعون للجمع بين مختلف اشكال النضال المسلح والسلمي، مع اعتبار الكفاح المسلح هو الحاسم. غيفارا سار الى بلد اجنبي بصحبة فريق صغير جدا من المناضلين المسلحين ولم تكن لهم علاقات تعاون مع القوى السياسية المعارضة في البلد، وحتى الحزب الشيوعي. وكان مشروعه ان ينتهي نضال الانصار كما حدث في كوبا. أي بالنصر وقيام نظام جديد. حين نمعن النظر في مختلف هذه الحالات وما آلت اليه، نجد انه حيثما حدث الانتصار لم يتحقق قيام نظام ديمقراطي برلماني، بل آلت الامور الى حكم فردي او حكم دموي قمعي.. وقد كتبت مرة في صحيفة (الحياة) في ذكرى غيفارا، كان من حسن حظه انه استشهد مناضلاً على ان ينتهي على راس سلطة لا ديمقراطية. وقد اخطأ فريق من الشيوعيين العراقيين حين رأى ان الحزب كان يجب ان يعمل لاستلام السلطة عام 1959، وكتبت ان من حسن الطالع انه لم يمكن له ذلك. اذ كان سيقيم حكما قمعياً تحت الشعار المعروف: ( لا حرية لأعداء الحرية) لا سيما وقد شهدت الفترة الاولى من الثورة حوار الدم والموت بين حلفاء الامس. ولعل ظاهرة عبد الكريم قاسم فريدة، فقد ترأس انقلابا عسكريا دعمه الشعب وكل القوى المعارضة، ولكنه لم يقم حكم الحزب الواحد والرأي الواحد كما فعل عبد الناصر، وفي الوقت نفسه لم تمكّنه الظروف والتحركات الخارجية المعادية والصراعات الحزبية من ان ينقل البلاد الى حكم نيابي ديمقراطي مع دستور دائم رغم انه كان يسعى لذلك. 

حين يتحول الضحية الى القوة والهيمنة فانه قد يصبح اكثر عنفا من الجلاد نفسه الذي حاربه وكان في الماضي ضحيته. وحين انظر اليوم الى مسلسل الانتفاضات والاشتباكات المسلحة في العالم العربي، اراني اقرب للتشاؤم عما ستؤول اليه الاوضاع في سوريا خاصة او ليبيا او اليمن، ناهيكم عن الوضع المتدهور في العراق... ان العمل المسلح ضد الانظمة الدكتاتورية يشجع نزعات الانتقام ويفجر ردود فعل مقابلة عنيفة . كما انه يخلق جوا مناسبا لصراعات امراء الحرب فيما بينهم رغم انهم بدؤوا معاً، وفي ليبيا اليوم مثال لذلك. ومن حسن حظ تونس ان التحول لم يجري بالسلاح رغم ان البلد يواجه مشاكل وتحديات كبرى. اما بالنسبة الى التحرك في سوريا فقد بدأ سلميا ولكن القمع الوحشي، ثم التدخل الخارجي حولاه الى جحيم للجميع. ان النضال السلمي له حسناته الكبرى، ولكن المشكلة في بلدان العالم الثالث وجود الدكتاتوريات والقمع الوحشي، مما يغري بالرد المسلح.. كافح فيديل كاسترو وعانى مع رفاقه ولكنه عجز عن اقامة نظام الحريات العامة والشخصية مما ادى الى هجرة اعداد غفيرة.

على كل، لعل فيما مضى من المقال بعض التبسيط، لان ظروف كل بلد تختلف عن ظروف سواه. وثمة خفايا وتفاصيل وملابسات قد تفوت المراقب والمحلل ملاحظتها، مما يجعل التنظير العمومي، الجامد، امراً غير ممكن. اما ملاحظات هذا المقال فأنها تندرج في باب المحاولة التقريبية لفهم جوانب هذا الموضوع الاشكالي. وثمة من الحكام من حاولوا المفاضلة بين العدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية، كما فعل عبد الناصر مثلاً. وهذه المفاضلة مردودة لان الديمقراطية السياسية هي اولاً تضمن الحريات كافة،وما يعنيه من الرقابة العامة. وأيضا لأنها هي من تضمن صيانة وتعزيز وتطوير المكاسب الاجتماعية وتكون حارسا لها في وجه نوايا ألاستبدادوالحكم الفردي والشمولي.

ملحق:

يعرف المتابعون لمراحل الحركة السياسية العراقية انني كنت في فترة من الفترات مهووساً بنظرية الكفاح المسلح. ومع الزمن والعمر أعدت النظر وملاحظات المقال تدخل في هذا السياق. اما بالنسبة للعمل المسلح ضد الغزو والاحتلال الاجنبيين فلهو شأن أخر قد نعود له في مقال اخر.