بعيداً عن الإستذكار العاطفي الإنفعالي، إذا أردنا أن نستذكر الجيش العراقي، فيفترض أن نستذكره لشرف ناله يومـاً بتأسيسه وتطويره على يد نخبة إستثنائية من الأشراف وأبناء الاصول ورجال الدولة المخلصين الوطنيين الحكماء، أمثال جعفر العسكري ونوري السعيد والفيصلان وعبد الإلـه وغازي.لا أن نستذكره للعار الذي لحق به بإنقلابه عليهم، وسفكه لدمائهم الزكية، وتحوله لمطية يركبها ويسوقها ضباط هواة وشـلاتية وشقاوات لتحقيق مآربهم وأهدافهـم المريضة، كما حصل ويحصل منذ صبيحة 14 تموز 1958 الأسود وحتى الآن، مع إستثنائات هنا وهناك.

وفي ذكرى جيش تهاوى وإنحل وإندثر، وبمناسبة الإحتفال بمومياء جيش أسسه أبطال وطنيون مخلصون ثم تلاعبت به أهواء عساكر هواة ومجانين كقاسم وعارف والبكر، ثم تسيد عليه شلاتية وعصابجية وسقط متاع من أمثال علي حسن المجيد وهادي العامري وسليماني. مشكلتنا وكالعادة، تتمثل بتقديس الرموز من قبل أجيال نشَأت بزمن حكومات عسكر وعلىبروباغندا أغاني وطنية وشعارات طالما تغنت بهذا الجيش، لكن هذه الأجيال، وأيضاً كالعادة، لا تريد أن تتعب نفسها بالتفكير وبغربلة ما وجدت عليه آبائها وأجدادها وحكوماتها لتعيد تقييمه، ونسيت أن هذا الجيش كأي شيء بهذه الدنيا، له حسنات وسيئات، لذا لا ضَير من الأشارة الى حسناته إن وجدت كمشاركته بحرب48 و 73 ودوره بحرب ايران، وأيضاً الى سيئاته الكثيرة بدئاً بالإنقلابات الدموية التي كانت السبب في تدمير العراق، مروراً بجريمة غزو الكويت، وصولاً الى إنغماسه بالصراع الطائفي بعد 2003، بالإضافة الى مظاهر الفساد الإداري والممارسات اللا إنسانية مع الجنود التي تسللت اليه وتغلغـلت فيه، خصوصاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والتي باتت رائحتها تزكم الأنوف بعد 2003.

لو كان الجيش العراقي مؤسسة وطنيـة أصيلة متوازنة معافاة فعلاً لحافظ على كيـانه وقيمه وإحترامه كما الجيش المصري مثلاً، الذي أمسِك ببلده وحماه من الضياع، والذي لم تزعزعه كل التغيرات والتجاذبات السياسية التي مرت على مصر وحافظ على نفسه وعليها، ولم يضيع نفسه وبلده كما فعل الجيش العراقي، الذي تحول اليوم الى سرايا وفصائل مُبَعثرة بل تابعة في بعض المناطق لميليشا ما يسمى بالحشد الشعبي!فالجيش العراقي الحقيقي الذي تأسس مع تأسيس الدولة العراقية لم يعد له ولقيمه وجود فعلي، ولا علاقة له بما آل اليه حال الجيش العراقي خلال نصف قرن مضى، وبما وصل اليه اليوم من حال مُزري مُخزي، لذا فإن من يحتفلون اليوم إنما يحتفلون بذكريات وصور متخيلة لم يعد لها وجود سوى في مخيلتهم، ومن يحب العراق والجيش العراقي فعلاً عليه اليوم أن يشير الى سلبياته التي أدت الى إنهياره وأن يشخص من تسبب بها. فالجيش العراقي أهان نفسه يوم قام بأقبح وأقذر جريمة في تأريخ العراق وهي قلب نظام حكم دستوري وقتل عائلة مالكةمسالمة أقسم لها ضباطه المتآمرون يمين الولاء، ليأتوا بدلاً عنها بشِلل كعيبرية وأحزاب مراهقة، ولتصبح وظيفته التآمروالتحضير للإنقـلابات بدل الدفاع عن الوطن! والجيش العراقي أهين يوم باتت وظيفته قصف مدن بلاده بدل حمايتها، كما حصل في حرب الشمال بالسبعينات، وأحداث 1991،وكما حصلبعدها بعشرين سنة في الزركة والحويجة وبهرز والفلوجة!والجيش العراقي أهين يوم رضي ضباطه من خريجي الكلية العسكرية العراقية وجامعة سانت هيرز بأن يؤدوا التحية لحسين كامل وعلي كمياوي كوزراء دفاع ولصدام حسين ونوري المالكي كقائد عام للقوات المسلحة وهُم أما فرارية أو لا يتقنون حتى اليَس يَم! والجيش العراقي أهين يوم نخروه بأفواج دمج، والبسوا زيه لمليشيات المرتزقة وعصابات المجرمين والقتلة التي روعت الناس وإستباحت حرماتهم! والجيش العراقي أهين يوم إضطر لأستبدال أسلحته وبزاته بملابس مدنية تُسَهّل الهروب،ولم يصمدبمواجهة زعران وعجايا ومسوخ داعش، بعد أن أنيط أمره الىفاشل فاسد فشل بتوفير الماء والكهرباء والحصة التموينية فكيف ببناء الجيوش ووضع الخطط العسكرية! والجيش العراق أهين يوم أهانه قائده العام العود نوري المالكي على الملأ أمام شاشات التلفاز وإتهمه بالتآمر، وسفهه بأن دعى لتشكيل أفواج مدنية (أي ميليشيات) لتحمي المدن وعاد للإستعانة بميليشياته الطائفية!

لذا وبالمحصلة فإن الجيش العراقي تعبان وفيه العبر، لكن يبقى الحل هو بإصلاح نظامه وقوانينه وعقيدته العسكرية التي مسختها الإنقلابات وشوهتها تقـلبات السنوات الأخيرة والعقود المـاضية، وليس بالتـآمر عليه أو حَلِّه أو تشويهه أو تسفيهه وإستبداله بمليشيات من العتاكة والمرتزقة والعصابجية! ولا بالإحتفال بذكرى تأسيسه وهو وبلاده بهذا الحال البائس من الفوضى والإنهيار! فالكثير من دول العالم وشعوبها لا تتذكر حتى متى تأسست جيوشها، لكن حالها وحال جيوشها أفضل من حال العراق وجيشه وشعبه بملايين المرات! فالعبرة ليست بالتذكر والإحتفال، بل بالفعل والعمل.

 

مصطفى القرة داغي

[email protected]