"بدءاً من هذا اليوم سيكون الشعار الوحيد.. أمريكا أولاً"

بهذه العبارة القوية التي تحمل الكثير من التحدّي، عنون الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين "أمريكا القادمة" مع توليه السلطة من سلفه الديمقراطي باراك أوباما، ليعلن بدء مرحلة جديدة في تاريخ البلاد، ل"إعادة أمريكا إلى الأمريكيين" و"إنقاذها " من مؤسسة السلطة في واشنطن تحت قيادة أسلافه، التي "حمت نفسها وتخلّت عن المواطنين العاديين الذين يعانون الفقر والجريمة"، على حدّ قوله.

خطاب ترامب، على العكس من سلفه الديمقراطي أوباما، حمل طابعاً "انغلاقياً" و"شعبوياً" و"قومياً"، بإمتياز، وهو ما ينبئ بإحتمال تبني ترامب لمبدأ "الإنعزالية" و"التفرّد" و"الأنتي ليبرالية" على مستوى السياسة الخارجية، واستخدام القوة العسكرية الأمريكية، في حالات اضطرارية، للتدخل في بقاع مختلفة من العالم، فقط لإحتواء الأزمات، كما فعلت أمريكا لإحتواء أزمتي "الإتحاد السوفياتي السابق" ودول البلقان في تسعينيات القرن الماضي.

 

لا شك أنّ صعود ترامب من رجل أعمال ونجم تلفزيوني إلى أعلى قمة هرم السلطة في أمريكا هو نتيجة طبيعية لبروز التيار الشعبوي في أمريكا، والذي هو بدوره إفراز طبيعي للنظام السياسي الديمقراطي في البلاد، بسبب عجز العملية السياسية في أمريكا من تحقيق "أمريكا أفضل" للأمريكيين، وفشل النخب السياسية في تحقيق الإرادة الشعبية والديمقراطية، بوصفها حكماً من الشعب للشعب.

 

تدخل أمريكا تحت إدارة ترامب في شئون أوروبا، لتقويض القاعدة السياسية للنظم الأوروبية الغربية، عبر دعم التيارات الشعبوية والقومية الصاعدة في فرنسا وألمانيا وهولندا والنمسا ودول أخرى، ليس أمراً مستبعداً. ربما من هنا يمكننا فهم رد الفعل الألماني السريع والقوي، الذي جاء على لسان غابرييل زيغمار، نائب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في مقابلة عقب تنصيب ترامب، إذ قال "ما سمعناه اليوم في خطاب ترامب كان نبرات قومية حادة.. أعتقد أن علينا أن نستعد لمرحلة صعبة.. يجب أن تتحد أوروبا للدفاع عن مصالحها." زيغمار اختزل خوف ألمانيا وأروبا بالقول: "علينا أن نأخذ هذا الرجل على محمل الجد. مخطئون كل أولئك الذين قالوا أن الأوضاع لن تصبح سيئة، لننتظر ونرى. علينا ألا نذعن أو نخاف، بل ينبغي أن نكون واثقين من أننا دولة قوية والدرس الذي يجب أن تستفيد منه أوروبا هو التضامن."

 

"الخوف" الأوروبي من "أمريكا الصعبة" في زمن ترامب، يكمن ربما في احتمال إدارة ترامب ظهرها لقيم النظام الليبرالي الذي قادته الولايات المتحدة لعقود، ما يعني تبني "الشعبوية" و"القومية الإقتصادية" و"النيو ـ إنعزالية" كإستراتيجية جديدة في العلاقات الخارجية مع العالم، والمحصلة النهائية ستعني المزيد من أمريكا على حساب المزيد من العالم.

 

منطق ترامب ليس مبنياً على "التفكير الإستراتيجي" البعيد المدى، بقدر ما هو مبني على "عقد الصفقات" السريعة، بإعتبارها الطريق الأسهل والأقل كلفةً لتحقيق المصالح الأمريكية في عالم تأكله الحرائق والحروب والأزمات من كلّ صوب.

"بناء الأمم"، عبر التدخلات الخارجية ونشر الديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان، لن تشغل حيزّاً في قادم استراتيجية ترامب وتفكيره، كما شغلت استراتيجيات وتفكير أسلافه في البيت الأبيض. ولكي تكون "أمريكا أولاً" وتعود "عظيمة" كما كانت، عليها، حسبما جاء في كلمة ترامب، أن تعيد النظر في علاقاتها مع العالم، وأن "تقوم بإثراء صناعاتها على حساب الصناعات الأجنبية"، و"تمويل جيشها على حساب الجيوش الأجنبية"، وأن "تدافع عن حدودها على حساب الدفاع عن حدود العالم".

 

بإختصار، أن تكون "أمريكا أولاً" يعني، حسب منطق ترامب، أن يكون ما تبقى من العالم آخراً.

 

الأمر الآخر الذي يزيد من قلق أوروبا تجاه سياسة ترامب واستراتيجيته الجديدة "أمريكا أولاً"، هو احتمال توجه الأخير شرقاً لعقد اتفاقات مع "الزعيم الحقيقي لدولة حقيقية"، فلاديمير بوتين بمنأى عن حلفاء أمريكا الأوروبيين التقليديين.

 

رؤية ترامب للشرق الأوسط ومناطق النزاع في العالم، على العكس من أسلافه في البيت الأبيض، لاتقوم على صناعة "البديل الديمقراطي"، بقدر ما أنها تقوم على صناعة "البديل الديكتاتوري" الذي من شأنه يحقق الأمن والإستقرار في المنطقة، ويحمي المصالح الأمريكية، بأقل قدر ممكن من الخسائر وإنفاق الأموال. ترامب عبّر خلال حملته الإنتخابية، بصريح العبارة، عن "الحنين" إلى الديكتاتورية وحقبة الطغاة في الشرق الأوسط.

"صناعة" الديمقراطية خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية، لن تكون ضمن أولويات ترامب، لأن جميع جهود أمريكا في إيجاد "البدائل الديمقراطية" وتعزيز حقوق الإنسان في الشرق الأوسط باءت بالفشل، وكانت النتيجة هي ما تشهده المنطقة الآن من حروب "الهويات القاتلة".

ديكتاتور يحفظ الأمن، أفضل بكثير من ديمقراطية تبحث عن الأمن. هذا هو العنوان العريض المحتمل لسياسة ترامب القادمة في الشرق الأوسط.

 

بعكس أسلافه، ستقوم استراتيجية ترامب على قاعدة "التحكم بالأزمات عن بعد"، وعدم التدخل المباشر في الشئون الداخلية للدول، الأمر الذي يقتضي بناء علاقات جيدة مع اللاعبين الأربعة الأقوياء في الشرق الأوسط؛ إسرائيل عبر دعم دولتها بما فيه حق بناء المستوطنات، وإيران بالتغاضي عن صفقتها النووية، ومصر بإطلاق يدها في الحكم وعدم مطالبتها بالإصلاح السياسي أو مراعاة قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، وتركيا بإرضاء العدالة والتنمية والتغاضي عن تجاوزات رئيسها رجب طيب أردوغان على القيم الديمقراطية وطي صفحة الخلافات بينهما، في كل ما يتعلق بملف "فتح الله غولن"، بإعتباره شأناً داخليا تركياً.

 

إذا كانت أمريكا في زمن أسلاف ترامب قد دخلت الشرق الأوسط من باب الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات، فإنّ أمريكا في زمن ترامب ستدخلها من نافذة الديكتاتورية.

 

طريق أمريكا في عهد ترامب إلى الشرق الأوسط، سيمرّ على الأرجح من موسكو.

تقاسم تركة "سايكس بيكو" مع دولة قوية متنفذة مثل روسيا أسهل بكثير من "صناعة" المعارضات، والديمقراطيات و نشر مبادئ حقوق الإنسان، في بلاد لا يزال القتل على الهوية والدين والطائفة، هو العنوان الأبرز لحروبها ونزاعاتها. ولعلّ الدول التي ضربتها عاصفة ما سميت ب"الثورات العربية" لتحقيق "بديل ديمقراطي" وانهاء حكم الديكتاتور بحكم الشعب، مثل سوريا وليبيا واليمن، وقبلها العراق، هي دروس وعبر تكفي ليبني عليها ترامب استراتيجيته الجديدة.

فضلاً عن ذلك، فإن تعاون أمريكا مع روسيا، سيحقق أحد أهم أهداف ترامب الإستراتيجية، وهو "القضاء على الإرهاب الإسلامي" ومنعه من التمدد غرباً والحؤول دون دخول الإرهابيين إلى أمريكا.

 

 ترامب رسم صورة سوادية قاتمة لأمريكا ما قبله، وحمّل أسلافه في البيت الأبيض مسؤولية "انحدار" أمريكا "المنهكة" إلى الأزمة الإقتصادية والجريمة والعصابات والمخدرات والفقر.

ووصف ترامب "إرث" سياسات أسلافه ب"المجزرة الأمريكية التي يجب أن تنتهي وأن تتوقف الآن". وتوقف هذه "المجزرة" يعني "إجراء صدمة كهربائية للنظام هنا على الفور تقرياً"، على قول كيليان كونواي كبيرة مستشاري ترامب.

 

لا شكّ أن رئاسة ترامب لأمريكا "لن تكون نهاية العالم"، على حد قول وزير العدل الألماني هايكو ماس، لكن العالم سيشهد على الأرجح انقلاباً ربما غير مسبوقاَ في الإستراتيجية الأمريكية، خصوصاً لجهة علاقة أمريكا مع العالم وعلاقة العالم مع أمريكا.

وبين هذا الخوف وذاك، وهذه الحقيقة وتلك، يبقى السؤال الأكبر ما بعد خطاب "أمريكا أولاً"، هو: هل سيفعها ترامب؟