لا أعتقد في حدود معرفتي أن هناك شعوباً تخاف التنوع الديموغرافي فيها كالشعوب العربية ومؤسساتها الرسمية؛ فهي تحافظ لدرجة الموت إن لزم الأمر للحفاظ على النسيج السكاني العِرقي لبلدانها على أرضها. تتغنى هذه الشعوب والدول بالعروبة والأخوة الإسلامية والحضارة الإنسانية ولكنها تقف سداً منيعاً ضد الاقتراب من ديموغرافيتها. لهذا فهي حريصة جداً على أصولها التاريخية من أنها جاءت من المنطقة الفلانية أو العلانية.

فقط بالدول العربية تبقى الشعوب تذكر القادمين إليها بأنهم مجرد أغراب مهما اجتهد القائمون على سياستها باختراع الألفاظ الخفيفة للتلطيف من وقع هذه الكلمة على المعنيين فيها؛ ومهما بلغت مساهمة القادمين اليها ببناء حضاراتهم إلا أن النظرة إليهم هي انهم مجرد أغراب عملوا بأجرة. ومن المفارقة أن هذه الدول لا تمانع أن ينتقل أفرادها إلى دول أخرى ليكونوا أغراباً هناك أو سمهم ما شئت ولا ترى في ذلك غضاضة. 

وهي الوحيدة أيضاً التي تضع كل العراقيل أمام من يختار أن يحصل على جنسية هذا البلد عندما تطول إقامته فيه. وإذا مُنِح هذه الجنسية فهو مواطن صنف ثاني أو ثالث إذ لا يحق له الانتخاب أو الترشح أو الحصول على منصب كبير إلا إذا كانت الحاجة ماسة إليه، ومع ذلك يبقى درجة ثانية ويحق للمواطن الذي يقل عنه درجات أن يتقدم عليه اجتماعياً أو بالاحتفالات الرسمية حتى بدائرته الوظيفية الضيقة حتى لو لبس لباسهم الرسمي.

وفي الدول العربية فقط يمكن أن تجد الكثيرين يعيشون كالأغراب وهم ما يعرفون (البدون) وهذا بحث قائم بذاته لأناس يعيشون في بلدهم الأم ويحرمون من جنسياتها لأسباب لا نعرفها؛ ربما بسبب تواجدهم بمناطق حدودية حيث تضيع حقوقهم بالمواطنة بين هذه الدولة أو تلك. وطبعا قد تجد هذه الظاهرة بمعظم البلدان العربية وليست دولة بعينها. 

والسؤال الذي يطرح نفسه دائماً هو لماذا لا نجد هذا الخوف من الدول المتحضرة التي سعت وتسعى لاستقطاب المهاجرين إليها لتعمير الصحراء وتمنحهم الجنسية ويصبحوا مواطنين درجة أولى وليس ثانية كأبناء البلد، فنسمع لاحقاً بأسماء من أصول خارجية وقد تبوأت أرفع المناصب تصل إلى درجة الرئاسة. ولا يوجد في تلك الدول من يذكر هؤلاء بأنهم أصلاً ليسوا من هنا وكلما (دق الكوز بالجرة) يتم تهديدهم بالترحيل وسحب الجنسية أو تذكيرهم بأهم مجرد وافدين أو درجة ثانية. 

السبب الرئيس برأيي هو سياسي بحت وهو الخوف على كرسي الحكم رغم التشدق الدائم بأن دولنا دولاً متعددة الأطياف أو المنابت؛ فهل ضر أمريكا أن يحكمها رجل كأوباما لدورتين متتاليتين. وهنا قد يسأل سائل السؤال التالي وهو محق فيه وهو هل تضمن لنا أن يكون ولاء الأغراب (القادمين الجدد) لبلدنا كولاء أوباما لأمريكا؟ أقول نعم نضمن ذلك بدول القانون. عندما يضمن القانون لهذا الوافد بمدة بسيطة ومعقولة أن يحصل على جنسية البلد الجديد ويصبح مواطناً كامل المواطنة. هل يضمن القانون لهذا الوافد أن يحصل على حقه الاجتماعي فيتزوج ويُزَوِّج من أهل البلد دون النظرة الدونية له؟ هل سيبقى هناك من يلاحق هذا الوافد ليحصي عليه أنفاسه خوفا منه على البلد رغم أنه أصبح مواطناً فيها؟ 

لقد كانت العرب من قبل في طور البداوة وقبل ظهور الكيانات السياسية كلها أرضاً واحدة ينتقل فيها المرء أنى شاء، ولهذا ظهرت امتدادات القبائل العربية من شرق العالم العربي إلى غربه؛ ومن النادر أن تبحث في أصول قبيلة في المشرق ولا تجد لها امتداداً في وسط وغرب هذا العالم العربي من المحيط إلى الخليج. وعندما انتقلت هذه الدول من مرحلة البداوة إلى الحضارة وجدنا الخوف الكبير من هذا (البعبع) المسمى بالغريب. 

لا أنادي بالرجوع الى نظام البداوة، ولا أشجع أن تكون حركة الناس بين البلدان العربية (سداح مداح) دون ضوابط؛ لكني أنادي بتنظيمها بحيث يصبح من أبسط الحقوق لهذا الغريب أو الوافد أو الأجنبي أن ينال الجنسية في البلد الذي يقضي فيه زهرة عمره دون منية من أحد والسماح له بالبقاء فيها حسب القانون دون الحاجة لما يُسمى بالكفيل. للدول العربية الحق أن تضع الشروط التي تريد من حيث مدة الإقامة ولكن إن حقق المقيم هذه الشروط يصبح مستحقاً للجنسية دون معوقات إن أراد ذلك. 

ويمكن التوفيق بين مختلف الآراء بهذا المجال بإعادة النظر بموضوع ازدواجية الجنسية؛ كما أعلم أن القوانين العربية جميعها أو معظمها حتى لا نقع بخطأ التعميم ازدواجية الجنسية وبهذا يُحرم من يحاول التوفيق بين ممن يتشبث بتراب بلده الأم ويحاول التمسك ببلده الثاني الذي قضى فيها عمره ونشأ فيه أولاده وترعرعوا ولا يعرفون بلدهم الأم إلا بالاسم. أي عقوبة أشد من أن ينتقل المغترب لسنوات من اغتراب إلى اغتراب. 

ما زال خبراؤنا الديموغرافيون غارقين بالبداوة التي تصر أن ما يلجأ اليهم هو قصيرهم أو مجاورهم لو أقام معهم ما شاء الله له أن يُقيم.